كتّاب

الأم والعدرا…


الأم والعدرا
فى الثقافة الزراعية المصرية
فى فيلم بداية ونهاية الرائع تلاحظوا أن “حسن أبو الروس” الفتوة والبلطجى الجبار والمهرب الخطير، يذهب إليه أخوه حسين ليطلب منه عشرين جنيها لتدبير اقامته فى طنطا سكرتيرا فى مدرستها الثانوية إلى أن يحين وقت قبض مرتبه.. وبعد أن تخلع له إحدى عشيقاته غويشة ذهب ترتديها، يعطيها لأخيه ليبيعها ولا ينس أن يقول له: إذا سألتك أمك جاب الفلوس منين؟ قلها استلفها من الأستاذ .. الفتوة الذى يفرض سطوته على الحارة يخاف ويرتعب من فكرة أن خيبة أمل فيه قد تراود امه .. واتذكر كيف كان أبى المهيب الذى لم أكن أجرؤ على مجرد الحديث إليه.. وهو أب لعشرة أولاد من البنين والبنات ..وقد تجاوز الخمسين، يقسم لأمه “ستى” بالله: أنه فعل كذا أو لم يفعل –وأنا أعرف يقينا أنه حانث – مخافة أن تنظر إليه أمه نظرة لوم قائلة إزاى تعمل كده يا حامد؟؟.. وكنت أنا كذلك مع أمى رحمها الله.
ورحمة الأم على أولادها وتمنياتها لهم مسلمة بديهية وأنسانية غير صالحة للنقاش..عندما وضع أخى العظيم الكبير صلاح على قوائم ترقب الوصول والضبط فى مطارات مصر .. فمنع من دخول البلاد سنوات خمس.. كان عندما يشتد المرض بأمى أسمعها تناجى ربها فجرا: “يارب إدينى العمر لما أبص ف وشه بس”
لقد احتلت الأم فى الثقافة الزراعية المصرية مكانة مقدسة فهى: تسأل الابناء .. وتستجوبهم.. وتلومهم .. وتوبخهم وتحرمهم من الطعام .. وتشتمهم ..وتصفعهم على وجوههم إذا لزم الأمر .دون أن يستطيعوا الرد شتما بشتم أو ضربا بضرب .. وانما غاية ما يستطيعوا الاعتذار ومحاولة توضيح موقفهم .. والقسم بألا يكرروها..مهما كانوا كبارا بشنبات ولهم أسر وزوجات وابناء
ولم يكن هذا الترتيب ترتيبا قدريا ميتافيزيقيا وإنما هو ترتيب الحضارة الزراعية المصرية ففترة طفولة الإنسان ممتدة وثدى الأم هو أول سبب للشبع والإحساس بالأمان والحياة، ثم يأتى بعد ذلك حنانها وحدبها وهدهدتها .. وحواديتها الموحية: عن ست الحسن والجمال ..والشاطر حسن .. وأمنا الغولة..والكهوف المسحورة التى تلهب خيالنا.. ورقة ربتها بيديها على ظهورنا…فى دقات رتيبة تبعث على الطمأنينة وتجلب النعاس الهادئ.. وصوتها الدافئ الحنون وهى تدعونا للنعاس “نام يا حبيبى نام وأدبحلك جوزين حمام” .. ومصطلحاتها الصادقة القوية التى تخلعها علينا: حبيبى ..قلبى . روحى .. روح قلبى .. نورعيونى..كبدى .. ضنايا
ودعواتها الشجية لنا: مايورينى فيك سو.. ويحبب فيك خلقه…ولا يوقفك قدام حاكم ظالم .. ويجعل يومى قبل يومك
كل هذا والأم فقط فى الحضارة الزراعية هى من تجمع سنابل القمح وكيزان الذرة التى خلفها الرجال ورائهم فى الحقول بعد الحصاد…وهى التى تعرف كيف تحتال بقطعة من اللحم لتصنع منها حلة طبيغ تكفى الأولاد ليشبعوا .. وهى من تستطيع تدبير شؤن البيت والتصرف فيها مهما كانت الأموال قليلة، وهى التى تستطيع تربية الدواجن وحساب كم بيضة تحصل عليها للأولاد .. وتهيئة الظروف أمام تلك الدواجن للفقس وتتابع الأجيال.. وهى الوحيدة التى تعتبر نفسها مسؤلة أمام الجميع عن هذا السؤال الأبدى: حناكل إيه النهارده؟
كانت هذه الحضارة وقيمها ماجعلت المصريين يقبلون “العدرا” قبولا حسنا..فهى لم تكن نصا مقدسا فى المسيحية.. بقدر ما كانت نموذجا لتلك الأم المصرية المقدسة.. وهى بالقطع وريثة الأم إيزيس العظيمة والنموذج الشعبى للأم كما وصفته.. هو ببساطة ما فعلته العدرا مع المسيح ومافعلته ايزيس مع حورس
ولذلك فقد إحتلت العدرا فى الوجدان المصرى تلك المكانة السامية، وكان القسم بها غاليا عندنا جميعا.. مسلمون ومسيحيون.. ” وحياة العدرا”
كل سنة واحنا وناسنا بألف خير وسلام ومحبة


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى