كتّاب

الأستاذ عبد العاطى الحداد…


الأستاذ عبد العاطى الحداد
الباجور- منوفية فى النصف الأول من الستينيات، كان الأستاذ عبد العاطى الحداد مدرسا للموسيقى فى مدرستى الابتدائية، شابا جميلا بشوشا لبقا فنانا بحق، شديد الإعجاب بقدرتى على غناء أعمال سيد درويش، وكان تلميذا لأبى وصديقا لأخوتى الكبار
المهم صحت البلد الريفية الهادئة، على خبر مثير ينتهى بزلزال هائل، خبر بأن مديرية التعليم تعد مسرحية مأخوذه من رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوى، وأن المسرحية ستقام على مسرح يعد خصيصا فى مركز الشباب وأن الأستاذ عبد العاطى الحداد سيلعب فى المسرحية دور “دياب” وأن المديرية ستستعين بمخرج وممثلين من مصر، أما الزلزال فكان أن الرئيس جمال عبد الناصر سيحضر بنفسه العرض المسرحى الذى سيقام بمناسبة احتفالات عيد الثورة، وفى ساعات محدودة أصبح الأستاذ عبد العاطى بطل الباجور ومحط أنظارها، وفارس فتياتها الوحيد، وكيف لا وبسببه ستطأ أقدام عبد الناصر العظيم أرض البلدة الهادئة، وسيمكن أهلها من رؤيته وجها لوجه، وبالتأكيد سيصافحه عبد الناصر وربما تسامر معه، وسيستطيع الأستاذ عبد العاطى أن يتقدم إلى الزعيم بمطالب البلدة: الكهرباء والمياة النقية والمستشفى والمدرسة الثانوية، ولم يكذب الأستاذ عبد العاطى خبرا، فراح يتجول فى مختلف شوارع البلدة مزهوا فخورا بنفسه، يرد على تحايا الناس بابتسامه واثقة، ويلبى دعوتهم لشرب الشاى، ويقف مع أقرانه على النواصى وفى الباحات ليحدثهم عن الرواية والمسرحية، ويمثل أمامهم مقتطفات من دوره فى المسرحية، ونحن الصغار نراقب من كثب
وبعد أيام استيقظت البلد على خبر سئ وهو أن الرئيس جمال عبد الناصر لن يحضر العرض، بل سيحضر بدلا منه السيد: كمال الدين حسين، وزير التعليم، ومع هذا قال لسان حال الناس: وماله، كمال الدين حسين معروف بعلو همته وهو من الضباط الأحرار ورفيق جمال عبد الناصر،
وبعد أيام قليلة قيل أن السيد كمال الدين حسين لن يحضر، وأناب عنه مدير التعليم بالمنوفية، وقبل العرض بأيام عرفنا أن الذى سيحضر هو مدير إدارة الباجور التعليمية
ويوم العرض أقيم المسرح البدائى على أرض فضاء متربة، وأمامه مائة كرسى احتلها مدير الإدارة وموظفيه والمعلمين، وبدأ العرض بعد العشاء فى ضوء ماكينة كهرباء جاءت من شبين الكوم، وكان الواقفون خلف الكراسى من الشباب والنساء والأطفال أضعاف الجالسين على الكراسى، ومر الفصل الأول من المسرحية بسلام يدوبك تعليقات فجة من هنا وهناك، وفى الفصل الثانى راحت أصوات الجماهير الواقفة ترتفع وتطغى على صوت الممثلين، ومشاحناتها تحتد، واقتحامهم صفوف الجالسين يعنف، أثناء الفصل الثانى الذى ينتهى بخناقة أهل البلد (فى المسرحية) على أسبقية الرى وإصابة دياب فيها بشومة على رأسة، وبمجرد إسدال ستار الفصل الثانى انسحب مدير الإدارة وخلفه موظفيه وفى الاستراحة كانت “قنابل التراب” تلعلع فى سماء العرض، والطوب ينهمر، والصراخ سيد الموقف، فانطفأت الأنوار وتوقفت المسرحية وأسرع الممثلون بمغادرة المكان
وفى اليوم التالى مررت على مقهى مجاور يجلس عليه الأستاذ عبد العاطى وسط بعض أصدقاءه، وتوقفت أنظر وعندما لمحنى واقفا نظر إلى وابتسم ابتسامة خجلى وعلى وجهه آثار مكياج اللون الأسمر والدماء من جراء معركة المسرحية بلأمس، التى أظن أنه تركها كآثار مجد غابر وأحلام زائلة عاشها وعشناها معه
وفى زيارة قريبة للبلد سألت عن الأستاذ عبد العاطى وعلمت أنه قد مات، فترحمت عليه وقرأت له الفاتحة

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى