توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشرية (٧)…


جولة فى تاريخ البشرية (٧)

ذكرت فى الحلقة السابقة أن تحول البشرية من مرحلة الشامانية إلى مرحلة الديانات المنظمة تزامن مع إنتقالها من مرحلة التجوال (الصيد وجمع الثمار) إلى مرحلة الإستقرار (الزراعة والرعي). ولم تمحو الديانات المنظمة التراث الشامانى بل إستوعبته. فنجد الديانة الإغريقية، مثلاً، مليئة بالكائنات الخرافية مثل الجن والحوريات وعرائس البحر (sirens) إلخ بالإضافة إلى كوكبة الآلهة التى كانت تعيش على جبل أوليمپ (Olympus).

كانت الديانات فى تلك المرحلة متعددة الآلهه (polytheistic). وهذا أمر متوقع، فالدين كان يقدم تفسيراً لما لا يستطيع البشر فهمه، مثل البرق والرعد والموت، وهذه ظواهر متباينة ومتعدده، لذا كانت الآلهة المسؤولة عنها أيضاً متباينة ومتعدده. عند الرومان، مثلاً، كان چوپيتر (Jupiter) إله الرعد، وأپوللو (Apollo) إله الشمس، وڤينوس (Venus) إلٓهة الجمال، وهكذا. أما عند الهندوس فكان التصنيف على محور مختلف: ڤيشنو إله الخير، وكريشنا إله الدمار، ولاكشمى (Lakshmi) إلٓهة الرخاء، … إلخ. وفى أغلب الديانات التعددية كان للآلهة ملك أو رئيس – آمون رع فى مصر، وزوس (Zeus) عند الإغريق، وبعل فى منطقة الهلال الخصيب … كما كانت هناك دائماً إلٓهة أنثى عطوفة يلجأ إليها الناس لتشفع لهم عند كبير الآلهه (إيزيس فى مصر وعشتروت فى الشام وأرطميس فى اليونان….)

كان من الطبيعي أن تقدم الديانات لأتباعها أسطورة للخلق وأسطورة لما بعد الموت، فالبشر دائماً يتوقون لمعرفة من أين جاؤا وإلى أين هم ذاهبون. لكن أسطورة الخلق لم تكن عنصراً أساسياً فى الديانات التعددية، ولم يكن رئيس الآلهة بالضرورة هو من خلق الكون (*). أما أسطورة ما بعد الموت فإختلفت بين الحضارات- كان الرومان، مثلاً، يعتقدون أن هناك عالم آخر تحت الأرض يحكمه إلإلٓه پلوتو (Pluto)، أما الهندوس فكانوا يؤمنون أن الموتى يُبعثون من جديد فى هذا العالم على صورة كائنات غير بشرية.

فى أغلب تلك الديانات لم يكن الآلهة منخرطين فى شؤون البشر الدنيويه، بل كان لهم مجتمعهم الخاص بهم، وكانت بينهم علاقات فيها حب وغيرة وتآمر وغير ذلك. أما البشر فكانوا بالنسبة لهم بمثابة لعب يتسلون بها (**). وإعتقد القدماء أن الآلهة أحياناً تتزاوج مع البشر. فنجد فى التراث الإغريقى على سبيل المثال أن هرقل وأخيل وپيرسيوس وغيرهم كانوا نتاجاً لذلك (***). والراجح أن الناس عندما كانوا يرون شخصاً ذا قدرات فذة كانوا يعتبرونه إبن إلٓه. ولم يكن الإغريق وحدهم فى هذا الإعتقاد، فنحن نجد فى الصفحات الأولى من التوراة نصاً يتحدث عن “أولاد الله يتزوجون بنات الناس”، (سفر التكوين، أصحاح ٦).

قبل المسيحية والإسلام كانت الديانات المنظمة كلها ديانات قومية، بمعنى أن المصريين كانت لهم ديانتهم، والاغريق لهم ديانتهم، وهكذا. حتى أول ديانة إبراهيمية لم تحيد عن ذلك، فالتوراة تنص بوضوح أن يهوه كان إله العبرانيين وحدهم، (حتى وإن كان هو خالق الكون كله.) فقد كانت العرقية والإقصائية طباعاً متأصلة فى البشر بعد أن عاشوا مئات الآلاف من السنين فى مجموعات صغيرة منعزلة، وأي غريب كانو يفترضونه عدواً (*4). وحتى فى مرحلة الزراعة والرعي ظل الناس يعتبرون كل الأجانب برابرة (barbarians) أو متوحشين (savages).

وعندما إستقر الناس فى قرى ومدن وتعلموا حرفة البناء، صاروا يبنون معابد لآلهتهم. وأنتجت الحضارات المصرية والإغريقية والرومانية والهندية وغيرها معابد مذهلة فى جمالها وعظمتها. لكن ذلك لم يحدث بين يوم وليلة، فالمعابد المبكرة كانت بدائية للغاية – تتكون من كومة من الحجارة تستخدم كمذبح، وأحيانا تحوطها بضعة أحجار أو تماثيل بدائية الصنعة. (نرى مثالاً لذلك فى معبد ستونهنج (Stonehenge) فى إنجلترا.) كذلك تعطينا التوراة صورة واضحة للمرحلة الإنتقالية – فقد كان العبرانيون فى فترة ترحالهم يحملون ما كان يُسمى ‘تابوت عهد الرب’ (*5)، ثم صاروا ينصبون خيمة مؤقتة كمعبد ليهوه، إلى أن بنى الملك سليمان أول معبد من الحجر والخشب.

أساطير القدماء موضوع طريف ويمكن الحديث فيه إلى ما لا نهاية. لكنى سأكتفى بهذا القدر، (والمعلومات متاحة لمن يسعى إليها.) فليس الغرض من هذه التعليقات تغطية المواضيع على نحو كامل ومتكامل. بل هدفها إستخلاص الخيوط الأساسية والربط بينها. وفى الحلقة القادمة نستأنف الحديث عن تطور المعتقدات عند البشر من تعدد الآلهة إلى التوحيد.
____________
*) الديانة الإغريقية، مثلاً، كانت تنسب خلق البشر إلى عملاق يسمى پروميثيوس (Prometheus).

**) على سبيل المثال- إعتقد الإغريق والرومان أن حرب طرواده (بكل ضحاياها ومآسيها) كانت مجرد مراهنة بين أپوللو وڤينوس بلا إعتبار لما يحدث للناس.

***) هرقل (Hercules) كان إبن إمرأة إسمها ألكمينى (Alcmene) من الإله زوس (Zeus). أخيليس (Achilles) كان إبن جنية إسمها ثيتيس (Thetis) من رجل إسمه پيليوس (Peleus). پيرسيوس (Perseus) كان إبن إمرأة إسمها داناي (Danaï) من الإله زوس أيضاً.

*4) جزيرة الحارس (Sentinel) الشمالية فى خليج البنغال تعيش فيها قبيلة منعزلة تقتل أي شخص يقترب. وهناك قبائل فى غينيا الجديدة كانت تفعل نفس الشيئ حتى الماضى القريب.

*5) لا تذكر التوراة بالتحديد ماذا كان فى ذلك الصندوق، لكن هذا أمر لا أريد أن أتطرق إليه حتى لا نتوه عن موضوعنا.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫10 تعليقات

  1. Very important knowledge should be well known to young generations so nobody can use them or brainwash them with fake history, Thank you Dr. Farid Matta,Please keep writing to enlighten Egyptians and all Arabic Language readers in their dark darkness they are living in, All the respect Sir and keep healthy and sound.

  2. ولم تكن هناك مشكلات في استعارة الآلهة والطقوس بين الجيران، فلم تحدث في العصور القديمة حروب لنشر الأديان كما حدث في الأديان الإبراهيمية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى