كتّاب

كيف دمر مبارك النيل وأسماكه وشواطئه؟…


كيف دمر مبارك النيل وأسماكه وشواطئه؟
من تجربتى المباشرة
تحدثت هنا غير مرة عن النيل ودوره فى حياتنا منذ العصور الحجرية، وعن النيل فى الغناء الحديث، وكيف كان وجوده أو ترعه عاصما للفقراء من الجوع، إذ أن بإمكانهم صيد أسماكه بالسّنارة وبالمشّنة وبالجلابّية بل وبيدهم العارية.
غير أنني اليوم أتحدث عن كيف دمَر مُبارك النهر الخالد؟.
فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى كان أخى الأكبر العظيم قد عاد من ليبيا بعد أن ظل اسمه كمعارض سياسي عنيد، على قوائم ترقب الوصول، منذ سفره إليها فى آخر زمن السادات، وكان معظمنا “الإخوة” قد تزوج واستقل، فاقترح أن يجمع شملنا ويعزمنا مع من نحب من أصدقائنا على غدوة سمك فى “السّدة الشتوية” ببلدنا الباجور منوفية، حيث فيها إخوتنا المتزوجات وأولادهم، ويعرف أهل الدلتا مثلي ماهى “السّدة الشتوية” لفروع النيل وترّعُه التى تمر فيها كترعتنا الباجورية؟ وهو تقليد قديم يعود لزمن الفراعنة إذ “تسد” الترع لمدة أسبوعين فى شهر يناير، بحيث لا يبق من ماءها إلا ماهو فى أجزاء عميقة محدودة وأسفل الكباري، ويصبح من السهل عبور الترعة مشيا على الأقدام بمجرد رفع الجلباب، والهدف من هذه السدة أن يقوم عمال وزارة الأشغال بتنظيف مجرى الترعة مما تراكم به من رمال وطين وأعشاب وإصلاح ما اهترأ من تكسّياتها، وهى فرصة لموت يرقات البلهارسيا فى نفس الوقت، وفى هذه الفترة تكثر الأسماك وتحلو وتكبر أحجامها وترخص أسعارها، إذ أن الصيد فى الماء الساكن القليل أسهل وأقرب منالا من الصيد فى الماء الغزير المتدفق.
نعود إلى عزومة السمك التى نتفق على أن تكون يوم جمعة، ونصل إلى بيت إحدى أخواتى يوم الخميس فنتعشي ونتحلق حول المنقّد لنتدفأ ونشرب الشاى، ونغفو ساعتين ثلاث، ومع الفجر نستيقظ ونأخذ السيارات وطست كبير وبعض الحِلل ونتوجه إلى قرية “القرينين” التى توجد فى ملتقى كثير من أفرع النيل ويمتهن الكثير من أهلها صيد السمك، وفى مدخل البلدة نلتقي الصيادين وهم يحملون “القُفف” المملوءة بالسمك الصاحى تغطيه إوراق البوص المبتلة، متوجهين بها إلى تُجار الأسماك فى الباجور،
فتصيح بهم أختى: إستنى ياعم، يسعد صباحك، ورينا معاك إيه؟ فيضع الرجل القفة على الأرض، وتروح أخوتى يقلبن فيها ويملنها يمينا ويسارا، ويدور فاصل من “المناهدة” العنيفة بين إخوتى والصياد، تبدأ بوزن قُفة السمك كلها، فيحلف الرجل بالطلاق أن بها أكثر من تلاتين كيلو سمك، وتقسم أختى بأغلظ الإيمان بأنها لا تحمل أكثر من عشرين كيلو، ثم تنتقل المناهدة إلى طبيعة السمك نفسه: ياعم دا كله بساريا وقراميط ، فيمد الرجل يده فى قلب القفة ليخرج سمكة بياض رائعة، وتنتقل المناهدة إلى السعر: نعم؟ بخمسين قرش الكيلو ليه؟ هى القراميط حتبقي زى البياض والتعابين؟، وتتهدد الصفقة بالانتهاء كل لحظة “وبين الشارى والبايع يفتح الله” وأخيرا وبعد نحو يصل إلى نصف ساعة من المناهدة والصخب، تصل الصفقة “الشروة ” إلى بر الأمان، وبينما يقوم الرجل بعَد نقوده، نقوم أنا وأخى برفع القفة من أذنيها وكبها كلها فى الطست ومعظم أسماكها تقفز وتنط، وهكذا مرة واثنتان حتى نكتفى وتمتلئ الأوانى التى معنا، ونعود مع شروق الشمس إلى البيوت التى مازالت تغط فى النوم، ونحمل أوانى السمك ونقلب فيها لنقف على مابها، وأهتم أنا لحب أصيل وقديم للأسماك بتأمل أنواعها التى معنا لأعد نحو ثلاثين نوعا من الأسماك، منها: “البُلطي، القرموط، الشال، البياض، القرقور، الثعبان، الرَعاد، الكلب، الأنومة، العِرسة، البِنى، قشر البياض، اللبيس، الشلباية، والدقماق والفهقة”، أعذرونى وأنا آتى على ذكر كل تلك الأنواع فهذا هو بيت القصيد من المقال
بعد الإفطار تكون أمامنا فرصة للهو المفيد والممتع حول كيفية التمييز بين سمكة الشال وسمكة البياض أو بين سمكة البنى وقشر البياض، ومن يستطيع القبض على قرموط هائل مازال حيا بعد أن وضعناه فى المياه، وقد أطلب من أحدهم أن يناولنى تلك السمكة الطيبة “الرعاش” وهو مازال حيا، فيمد المسكين يده ليتناولة فيفاجأ بشحنة الكهرباء المؤلمة وكأنه قبض على سلك عريان،
وبعدها نعمل خط إنتاج يبدأ بمن يقطع بساطور الزعانف والشوارب، ويمرر السمكة لمن ينزع القشور ويليه من يفتح البطن ويخرج الأحشاء ثم من يغسل السمك ثم من يقطع الأسماك الكبيرة، ومن يقوم بتتبيله، وفصلِ ماسيقلي بالزيت وما سيعمل صيادية بالصلصة والكرفس
وراحت العائلة كلها تستمتع بهذا الطقس السنوى الرائع لسنوات قليلة للأسف، فقد انتقل أخى الأكبر إلى جوار ربه سنة 1990، وهو فى الخمسين من عمره، وطبعا انسدت نفسنا عن كل التجمعات السعيدة والعزومات إلا ماهو ضرورى وواجب كعزاء قريب أو عقد قران فتاة أو شاب من العائلة
مر مايزيد على خمسة وعشرين سنة كاملة، من تاريخ أول عزومات السدة الشتوية 1985، حتى خلع المخلوع مبارك 2011، ربع قرن من الزمان مر أصبح فيه الأطفال شبابا والشباب رجالا والرجال شيوخا..وبعد سنين قليلة، تشجعت وعرضت على ابناء أخى وإخواتى أن أعيد سُنة الراحل الكبير وأعزمهم على أكلة سمك فى “السدة الشتوية”، فوافقوا وذهبنا وعند مفارق الطرق فى مدخل قرية “القرينين” انتظرنا الصيادين فجاؤا
وصباح الخير ياعم، ورينا معاك إيه؟ فلا نجد فى القفة إلا نوعين فقط من الأسماك “البلطى والقرموط”، فنأخذ بعضها وننتظر صيادا آخر فلا نجد إلا البلطى والقرموط، فندخل القرية نفسها فلا نجد سوى البلطى والقرموط، فنعود إلى سوق البلد فنجد السمكتين نفسهما، ونروح ونغدو بحثا عن بياضة او شال أو اى سمكة أخرى فلا نجد واحدة إلا بصعوبة بالغة، بل قال لنا بعض شبابنا أنها حتى البلطى والقرموط ليست أسماك حرة من النيل بل هى أسماك مزارع
هذا مافعله زمن مبارك بأسماك النهر الخالد … وللحديث بقية

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى