كتّاب

هيلين، كل سنة وأنت وطني…


هيلين، كل سنة وأنت وطني
“وتخلص الدني، وما في غيرك يا وطني”..
العاشر من سبتمبر، تنتهي السنة الثانية لهيلين وتفتح الثالثة أبوابها.

عندما كنت، هيلين، لا تزالين جنيناً أو فكرة كتبتُ لك كتاباً. وعندما تبلغين الثامنة أو الرابعة ستجدين هذا النص الذي كتبته لك في العام ٢٠١٣.
ـــــ

في مثل هذه الساعة من الليل، يا هيلين كان أبوك يكتب القصائد القصيرة للجميلات وكنت أنت رياحاً تسوق الهوى في أعالي الغمام ونارًا مخلقة من كلام الكلام . كنت أنتظرك عند منحدرات النخيل وفي مطالع الأودية ألف أغنية كتبت وألف غزال رصدت وكنت أنت دماً نائماً في الزمن وفاتحة لسؤال الوطن.
ستأتين، يا صغيرتي، وسننتظرك سنخبئ عنك الأسرار الصغيرة .
أما فجائعنا، يا كلمتي، فسندفئك بها قليلاً قليلاً وعندما تكبرين ستكونين مثلنا، ساره وأنا ومثل أحمد العربي ” المنسي بين فراشتين” .
في السنة الأولى سأكتب لك على الجدران أغنية العم درويش:
اذهب بعيدا في دمي
واذهب بعيدا في الطحين
لنصاب بالوطن البسيط
وباحتمال الياسمين.

وعندما تكتبين أولى قصائدك، سيكون ذلك في الرابعة من عمرك على أبعد تقدير ،سأجادلك حول الاستعارات سأقول لك:
ماذا لو أعدت كتابة النص هكذا يا أميرتي:
وطنان حول قصيدتي وأنا المدينة.
ستضحكين.
لطالما سمعتك تضحكين، وكنت أتخيلك:
كنهر هارب في التل
كحب تاه في المرعى
ونجم غارق في الطل.
ستعيدين كتابة الاستعارة هكذا:
نجمان حول مدينتي
وأنا القصيدة
سأكشر في وجهك، سأقول لك:
سأنام يا هيلين،
وحدي بلا أسرار
يا أول التاريخ،
يا خاتمة الأشعار
فلتخلقي الكلمات من ظمأ الأزهار ،
 نامي على صدري،
صدري على وطني،
وطني، أيا هيلين،
“من مارج من نار”..

أنا مرهق يا هيلين ،
مثل مَوالٍ جبلي مرهق، يا صغيرتي، مثل لحن كنسي عتيق
مثل أحلام راعية سمراء
ومثل سفينة شاردة في المحيط.

دعيني لا أقص عليك هذا النهار قصة العالم ولا “أحلام الناي”. ولدت على جبل، وستولدين على نهر ستراقبين حركة السفن والقطارات كما راقبت أنا قصص الجن والنسور. ستدرسين في طفولتك الموسيقا، وكيف تدربين الكلاب على اللعب. أنا أيضاً تعلمت في طفولتي أن أقطع أذني الكلب ليصبح أكثر شراسة ولا يميز الأصدقاء سيقولون لك أن الربّ يبغض اللصوص ويعطف على المشردين:
عندما كنت في مثل سنك سمعتهم
يقولون إن الرب يحاصر النساء أكثر من اللصوص وأن المشردين مذنبون،أو جواسيس.
عندما تكبرين ستكون المسافة ما بيني وبينك هي نفسها الشرق والغرب. ستسبح التكنولوجيا في دمك كما غرق دمي في الإيديولوجيا:
وقبل أن تغادريني إلى حبيبك ستكتبين لي رسالة قصيرة ستقتبسينها من كيبلنغ: الشرق شرق، والغرب غرب ولن يلتقيا.
سأرد عليك بجملة مختصرة:
الشرق اختراع الغرب يا هيلين، وأنت تقتبسين من رجلٍ كان يحرّض الأميركان على غزو الفلبين. لم يكن أخلاقياً، ولا جديراً بالتاريخ.
بعد أسبوع سترسلين إيميلاً لساره ستثرثرين معها كثيرا. بعد كلمة: أراك قريباً يا أمي ستكتبين: ملحوظة، قولي لأبي لا يصدق كل ما يقوله إدوارد سعيد.

أنا مرهق يا هيلين، هذه الساعة.

إيلينا، حبيبتي
لمجرد أن تتعلمي تركيب أول جملة ستكون هذه الحرب قد انتهت. إذا لم يكن ذلك قد حدث فستكون أول كلمة تنطقينها: الله، حرية، سورية، وبس. هي حربان يا هيلين، الأطفال والصبية يخوضونها لأجل الحرية أما كبار السن فيقتتلون لمصلحة رجلين عاشا قبل مئات السنين يسمى أحدهما علي، أما الآخر يا حبيبتي فيبدو أن اسمه كان معاوية لست متأكدًا مما إذا كانا قد عاشا بالفعل. غير أنك تستطيعين أن تتجاهلي هذين الاسمين بقية حياتك.
وعندما تقدمين امتحان الثانوية العامة ستكتشفين إن إجمالي المعرفة والعلوم التي خزنتها في رأسك تفوق إجمالي
ما عرفه الرجلان عشرات المرات. تنبهي يا إيلينا ..
إذا سمحت لي أن أقدم لك النصح فسأدلك على كتاب الأغاني، لا على البداية والنهاية. في كتب التاريخ يعيش الجنرالات وحروبهم. في كتاب الأغاني يعيش الشعراء وجميلاتهم.
إذا أردت أن تكوني مسلمة فمن الأفضل أن تكوني مسلمة بلا اسلام. لا يعرف أحد ما هو الاسلام مكث جماعة حول النبي لربع قرن وعندما رحل ذهبوا يتقاتلون كالدببة، ويفترسون بعضهم كالضباع .
سآخذك إلى القرية ستشرح لك أمي كيف تكونين مسلمة جيدة: خلي قلبك طيب، واوقفي مع المحتاجين. هيلينا، سأحدثك في المساء عن هذه الحرب التي يحرص رجلان ميتان على حسمها، ويموت فيها الأطفال
والصبايا ..

هيلين،
تركتك الليلة وحيدة وذهبت أراقب الفارين من الحرب. رأيتهم يلقون قمصانهم في النهر، ويتكئون على البنادق.
لم أر على صدر أي منهم صورة الحبيبة التي تخيلها أمل دنقل في الخندق.
كانوا خليطًا من الأعداء يمرون معاً. جاء كل منهم ياهيلين ومعه الإله الذي يحارب لأجله. بعد انفجار المعركة هرب المتحاربون وتركوا الآلهة خلفهم. تركوا الآلهة وبعض الجثث، والخيول الجريحة.

راقبُتهم يا هيلين حتى غابوا خلف التل. كانوا يترنحون كأنهم خرجوا للتو من “المهابهاراتا”
رآهم راع أبقار كان يمر بالقرب منهم، ألقى عليهم السلام وانفجر بالبكاء رأتهم فتاة وهم ينحدرون أمام فرسهم الوحيدة فشهقت.

لا يدري أحد ماذا كانوا يكون يفعلون في الحرب. وحدها الآلهة التي أرسلتهم إلى الحروب تعرف.

عندما فرّ باريس مع هيلين على المركب طاردتهم سفن اليونانيين. قال لشقيقه: لنحاربهم. لم يكن قد اشترك في حرب قبل ذلك. قال عنه هوميروس: كان به شجاعة وإقدام لكنه لم يخض حرباً. صرخ شقيقه، وكان محارباً عظيما يا هيلين: أتدري ما الحرب؟ هل رأيت رجلا يحتضر أمامك؟

أقص عليك عن الحرب، لأشفى من منها. قبل سنين طويلة كنت أتمنى لو أشترك في حرب دينية أنتصر فيها وأستشهد ، كنت أفكر بالحور العين. أنا الآن أنتظرك أنت فقط. البارحة قالت لي أمك أن الحور العين لا يقرأن الكتب ولا يفهمن الشعر. إنهن غير مثقفات، ولا يدركن حقائق الكون. لذلك لن أموت لأجلهن. سأعيش معك يا هيلين. رائعٌ أنك لن تسمعي مثلي تلك القصص التي تقول عليك أن تغزو العالم لكي يعرف الناس أنك رحمة للعالمين. لن تقرأي سيرة الرجل الذي حاصر المدينة بالمنجنيق من جهاتها الأربع وقال لجنده
وهو يدكها: لا تقطعوا شجرة..

رأيتهم خارجين من المعركة يبحثون عن الحب. لكنهم بعد زمن طويل في المعارك ذهبوا يفتشون عنه بأطراف بنادقهم .

لا تخافي يا هيلين يوجد أيضاً شعراء وعشاق عثروا على شفراتهم العميقة بعد أن فشلت الحروب في العثور
عليهم.
هيلين هل تسمعينني ؟

هيلين، صغيرتي
هذا الصباح رأيت أناساً أذكياء يهتفون لجثمان ، رأيت رجالاً جبناء يحرسون امرأة شجاعة ، سمعت موسيقى عن الحب في المنفى، وقرأت أغنية عن الحدود.
شربت القهوة العربية، التي تباع كمنتج أجنبي ولعبت قليلاً مع ساره هزمتها في لعبة النرد وغلبتني في الشطرنج قلت : سألقي التحية على بلدي . دخلت أمك غرفتها سمعتها تدبك بخفة كانت تستمع لأغنية “علي الكوفية علي، ولولح فيها.. غني عتابا وميجانا وسامر فيها” حسدت أمك. إنها تقول لي دائما:
my home is not a land
my home is my people

في بلدي كانت سحابة شاردة قد اختبأت خلف تل ريثما يعبر آخر المسلحين.
منذ زمن طويل وهي تنتظر عبور آخر المسلحين.

هيلين،
يمكنك أن تعيشي بلا تاريخ لكن هل يمكنك أن تعيشي بلا مستقبل؟ أقول لك ستحتاجين للرياضيات والتكنولوجيا
سيقال لك يومًا ماأن المرء لايمكنه أن يعيش بلا دين لكن الذين اختاروا أن يكونوا متدينيين ماتوا مبكرا. غالبًا ما يموتون، أو يقتلون، بسبب أديانهم
كما لو أن العكس صحيح، يا هيلينا: لا يمكن للمرء أن يعيش بدين.

سامحيني،
كان ممكناً أن أحدثك عن كيف وقعت آنا كارنينا في الحب.
لكني، لأسباب غامضة، ذهبت أقص عليك كيف ألقت بنفسها في سكة قطار الفحم.

أنت تفهمين كآبتي وتفهمين أيضاً: لماذا أنتظرك.

ــــــ

هابي بيرث دي تو يو..
وسنة حلوة يا هيلين.

م. غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫50 تعليقات

  1. مٌبدع ..
    كل سنة وهيلين بخير

    يمكنك أن تعيشي بلا تاريخ لكن هل يمكنك أن تعيشي بلا مستقبل؟

    تاريخنا البائس المخضب بدماء المحاربين يشنقنا بلاسبب سوى أن القتل عند تاريخنا مقدس

  2. اذا كان ترك الدين يعني تقدما
    فيا نفس موتي قبل ان تتقدمي

    ﻫﻴﻠﻴﻦ. ﺭﺍﻳٔﻊٌ ﺍٔﻧﻚ ﻟﻦ ﺗﺴﻤﻲ ﻣﺜﻠﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﺼﺺ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮﻝ ﻋﻠﻴﻚ ﺍٔﻥ ﺗﻐﺰﻭ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻜﻲ ﻳﻌﺮﻑ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺍٔﻧﻚ ﺭﺣﻤﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻤﻴﻦ. ﻟﻦ ﺗﻘﺮﺍٔﻱ ﺳﻴﺮﺓ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﺎﺻﺮ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺑﺎﻟﻤﻨﺠﻨﻴﻖ ﻣﻦ ﺟﻬﺎﺗﻬﺎ ﺍﻷ‌ﺭﺑﻊ ﻭﻗﺎﻝ ﻟﺠﻨﺪﻩ
    ﻭﻫﻮ ﻳﺪﻛﻬﺎ: ﻻ‌ ﺗﻘﻄﻌﻮﺍ ﺷﺠﺮﺓ..

  3. كل عام وهيلين وكل الاطفال بعمرها بخير ليت طفولتهم لاتكبر لكي لايعانوا ولايشاهدوا مايفعلون بوطننا الحبيب
    اتمنى من الله العافيه والخير لاطفال اليمن الذين لم يعيشوا الفرح وكل هذا بسبب اجيال فاسده كبرت على حب الذات والانانيه ظنوا ان الوطن يقسم فكل شخص اكل قطعه وترك الحزن في قلوب اطفالنا
    شكرا دكتور مروان على الكلمات الرائعه وعندما تكبر هيلين سترى كم كنا نحب وطننا وحزينين على مايجري به ولم نستطع ان نفعل شيء سوء كتابه كلمات قد تغيير في اجيال قادمه

  4. كل عام و هيلين بخير
    حين دخل الرسول صلى الله عليه و آله وسلم مكة لم يكن هناك منجنيقات
    كان الدين الذين انتشر بالتسامح و العفو و الأخلاق أولا
    أوافقك الرأي فيما حدث بعد رحيل الرسول صلوات الله عليه و من هناك بدأ الطغيان

  5. يفيض بالمشاعر. و الأحاسيس.
    الفرح بذكرى مولدها و الحزن على حال موطني والديها و القلق على مستقبلها..
    لكن بالرغم من كل عيد ميلاد سعيد لهيلين…..

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى