توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشريه (١٠)…


جولة فى تاريخ البشريه (١٠)

ناقشت فى الحلقات السابقة مراحل تطور البشرية من المنظور الإقتصادي والإجتماعي والتكنولوجى والدينى، وفى الحلقة ٩ بدأتُ مناقشة الفنون والأداب – ذكرتُ أن الفنون التشكيلية كانت قد بلغت ذورتها فى العصر الإغريقى، لاسيما النحت (*)، وأن الإغريق كانوا يعتبرون الجسم البشرى أجمل وأنبل شيئ فى الطبيعة، (ذلك قبل أن كبلتهم العقائد الشرقيه التى تشجب الجمال وتُقرنه بالعار والخطيئه.) ولا يحدث أن يزدهر نوع من الفنون بمفرده، لذلك ترعرعت عند الإغريق أيضاً نهضة أدبية مبهرة شملت الشِعر والدراما والفلسفه. وما زال الأدباء فى العالم كله يقتبسون من دراميات سوفوكليس (Sophocles) وكوميديات أرسطوفانس (Aristophanes)، وينهلون من فلسفات أفلاطون وأرسطو (**)، ويستكشفون الماضى من كتابات هيرودوت.

ثم ورث الرومان حضارة الإغريق وأعطوها ما تستحقه من إحترام وتبجيل. تبنوا التراث اليوناني وبنوا عليه، وكان المثقفون منهم يتواصلون ويتراسلون باليونانيه (كما هو الحال مع الإنجليزية حالياً.) وأصبح العصر الإغريقى-الرومانى يعرف بالعصر الكلاسيكى. ويُقال عن شيئ إنه ‘كلاسيكى’ إذا كان قد بلغ درجة من الكمال بحيث أصبح المعيار الذى يُقاس به غيره.

وكان الإغريق والرومان يبجلون الحضارة المصرية. ليس فقط لأنها حتى فى زمنهم كانت قديمة وأصيلة، بل لأن كل شيئ أنتجه المصريون كان يتميز برهافة الذوق وبراعة التنفيذ، من أصغر الجعرانات إلى أضخم المعابد. وحتى بعد أن فقدت مصر مكانتها وأصبحت إقليماً تابعاً للإمبراطورية اليونانية ثم الرومانية، ظل سادتها الجدد يعطونها ما تستحقه من الإحترام والتبجيل.

وبقدر ما كان الفن الإغريقي-الرومانى ديناميكياً كانت الفنون المصرية تتسم بالجمود والإستقرار، حتى أن المعايير الجماليةعند قدماء المصريين لم تتغير على مدى ٣٠٠٠ سنه – نفس الرموز والأشكال، نفس وضع الكتف الأيسر والقدم اليمنى، نفس تصميم غطاء الرأس … إلخ. قد يكون الإستقرار أمراً حميداً … لكن ٣٠٠٠ سنه ؟!. ربما كان السبب هو إنشغال المصريين إلى درجة غير طبيعيه بالموت والعالم الآخر ، وربما كانت هناك أسباب أخرى … الله أعلم.. (تأمل كيف تغيرت أذواق الناس فى ال ٥٠ سنه الماضية لتدرك مدى غرابة هذه الظاهرة.)

بعد دخول المسيحية إلى أوربا إضمحل الإنتاج الفنى بكافة أنواعه بإستثناء المعمار الكنسى ورسم الأيقونات. وإقتصر الأدب على تفسير التوراه وسيرة القديسين. فى مجال المعمار الكنسى ظهر نوع جديد من الفن التطبيقى هو الزجاج الملون. ويمكنك أن ترى نموذجاً خلاباً لهذا فى كاتدرائية القديس لويس فى وسط پاريس (***). أما فى مجال الأيقونات فقد كانت أكثر الأيقونات شيوعاً هي أيقونة العذراء والطفل (*4)، وصورة مار جرجس يقتل التنين (*5).

سمى المؤرخون تلك الحقبة بعصور الظلام. ربما كانت التسمية قاسية، لكن الحقيقة هي أن الإنتاج الفنى والأدبى تجمد خلالها لمدة ألف سنه. وعندما خيمت الظلمات على أوربا، دخلت كذلك إلى مصر (ولم تخرج). إنخرط المتعصبون فى تخريب التراث الفني القديم، فصاروا يكسرون أنوف التماثيل الفرعونية ويشوهون النقوش فى المعابد. وفى حادثة بشعة قتل رهبان متزمتون العالمة إيپاتيا (Hypatia) فى الإسكندريه (*6). ولم تتحسن الأمور مع إستبدال الإحتلال الرومانى بإحتلال عربى، فقد إحترقت مكتبة الإسكندرية المشهورة (*7)، وتحول التضييق على الفنون إلى حظر مطلق، وشرع السادة الجدد فى تفكيك الآثار المصرية وإستعمال أحجارها فى قلاعهم وقصورهم.

وهذه لحظة مناسبة لنتوقف ونلتقط أنفاسنا، وسنبدأ الحديث فى الحلقة القادمة عن عصر النهضة العظيم. ويا لها من قصه!
____________________

*) لم يحفظ لنا الزمن رسومات إغريقية كثيره، ومعظم ما عُثر عليه هو أوعية فخارية عليها رسومات ملتزمة بطراز متميز.
**) معلمهما سقراط لم يكن يميل إلى الكتابة، ولا نعرف عنه وعن أفكاره إلا من خلال تلميذيه العظيمين.
***) القديس لويس هو الملك لويس التاسع الذى قاد الحملة الصليبية الوحيدة ضد مصر. وتسمى بإسمه أيضاً مدينة سانت لويس فى أمريكا.
*4) الأيقونة ليست پورتريه، بل هي رمز ديني لا أهمية لملامحه الفرديه. لذلك نرى وجه السيدة العذراء فى بعض الأيقونات مستديراً وفى البعض الآخر بيضاوياً؛ أحياناً شقراء وأحياناً سمراء ،وهكذا. ويلاحظ المشاهد الفطين أن الطفل الذى تحمله العذراء فى كثير من الأيقونات القديمة يبدو وكأنه رجل صغير الحجم. سبب هذا أن الرسامين كانوا يجهلون أن نسبة حجم الرأس إلى الجسم مختلفة بين الأطفال والبالغين، فهي تقريباً ٨:١ فى الشخص البالغ، بينما هي ٤:١ فى الطفل.
*5) الصورة مستوحاة من أسطورة پيرسيوس وأندروميدا الإغريقيه.
*6) يلوم المؤرخون الأسقف كيرلس (Cyril) عمود الدين على الجريمة، لكن الكنيسة تنفى التهمه.
*7) لايفصل المصريون المعاصرون التاريخ والدين؛ لذلك لا يمكن التوصل إلى الحقائق. على أي حال لا توجد أدلة قاطعة على أن الغزاة العرب هم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫7 تعليقات

  1. مقال متميز كعادتكم ،شامل وسهل ..
    بانوراما تاريخيه..
    شديد الاعجاب بالهوامش فهي اضافه وتوثيق وفتح طريق أو دعوه للقارئ بالاستزاده..

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى