توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشرية (٣)…


جولة فى تاريخ البشرية (٣)

تربية الطفل البشري مشروع مكلف وطويل المدى. لذلك كانت لدى الأنثى دائماً مصلحة قوية فى أن يكرس الذكر جهده لأولادهما. مقابل ذلك كانت لدى الذكر مصلحة فى التأكد من أن الأطفال الذين يبذل جهده فى إطعامهم ليسوا من رجل غيره. وكانت لهذه الإعتبارات أهميتها على الأخص فى مرحلة الصيد وجمع الثمار حيث كان الطعام هو أثمن شيئ فى الحياة وكان الذكر كثير الغياب فى رحلات الصيد.

الراجح أن هذه الإعتبارات كانت عاملاً فى تشكيل نظام أحادية الوليف (مونوجاميا)، وهو النظام الغالب فى المجتمعات البشرية على مدى التاريخ. لكن المونوجاميا لم تكن إجبارية فى أي مجتمع قبل إنتشار المسيحيه، بل كان هناك دائماً من يمارسون تعدد الزوجات (پوليجاميا). …فى مرحلة الصيد وجمع الثمار كان بعض الرجال أعلى كفاءة فى الحصول على الطعام من غيرهم، وسمح ذلك لهم “بإقتناء” عدد من الإناث. ومع ظهور الملكية والطبقات فى مرحلة الزراعة والإستقرار كان الثراء والسلطة هما الدافعان الأساسيان لتعدد الزوجات. لكن المونوجاميا ظلت هي الوضع الغالب.

هناك إحتمال أن يكون ميل الإنسان إلى أحادية الوليف (المونوجاميا) ميلاً طبيعياً لا تمليه المصالح. وما يعضد هذا الإحتمال هو وجود كائنات أخرى تمارس المونوجاميا بطبيعتها، (مثل الذئاب والبجع وغيرهم). كما تؤيده حقيقة أن إباحة تعدد الزوجات فى بعض الديانات لم يؤدى إلى زيادة إنتشاره عن ما كان من قبل.

مع ظهور الملكية الخاصة والإرث فى مرحلة الزراعة والرعي تبلورت منظومة الزواج كما نعرفها، وصارت الأنثى و الأطفال يُنسبون إلى الذكر، لأن ملكية الأرض والعقارات كانت حكراً على الذكور. وصارت الزوجة تترك عشيرتها وتلتحق بعشيرة الزوج وتتخذ لقبهم. وتسمى هذه المنظومة بالمجتمع الأبوى (patriarchal society)، وهي المنظومة التى نعيش فيها الآن. وإبتكرت المجتمعات رموزاً تعلن وضع المرأة المتزوجة مثل نقطة على الجبهة (عند الهنود) أو خدش على الوجه (عند بعض الأفارقة) أو لبس دبلة عند غيرهم. فقد كان من المهم إعلام الذكور الآخرين أن هذه الأنثى “مأخوذه” (أو محصنة كما يقول العرب،) ولا تجوز مراودتها.

عادة يدفع الذكر لأهل الأنثى تعويضاً مادياً مقابل “أخذ” إبنتهم يسمى المهر. وفى مجتمعات أخرى (مثل الهند والصين وغيرهم) كان أهل العروس هم الذين يدفعون مهراً للعريس. وتعتمد قيمة المهر على الوضع الإجتماعى والإقتصادى للأطراف. فى قبيلة الأزاندى، مثلاً، كان المهر ١٢ حربة، أما مهر الآنسة دو-شاتيليه (du Châtelet) فكان قصراً تحيط به حدائق شاسعه.

لم يكن إنتماء الأطفال إلى أمهم محل شك فى أي وقت. لكن نسبتهم لأبيهم كانت بطبيعة الأمور مسألة ثقة (*). لذلك لم تكن هناك طريقة لضمان عفة الأنثى سوى الضغوط المعنوية وتهديدها بعقوبات صارمة إذا زنت (**). وجاءت الديانات فشددت هذه العقوبات الدنيوية وأضافت عليها عقوبات أكثر صرامة فى الآخرة. أما الذكر فكان فى أغلب الأحوال لا يخضع لأية عقوبات سوى عقوبات التعدى على ‘الملكية’، وسمحت له الأديان بإمتلاك جوارى (slave girls) وإتخاذ خليلات طالما أولادهن لا أحقية لهم فى الإرث (***).

غنى عن الذكر أن هذه مجرد نظرة عابرة إلى أمور يكتب العلماء فيها مجلدات. لكنى ،مع الإختصار الشديد، حاولت الإلتزام بالدقة العلمية قدر الإمكان.
________________

(*) لم يكن هناك قبل التطورات العلمية الحديثة إختبار لإثبات البنوة. عرف الناس بالخبرة أن التشابه لا يمكن الإعتماد عليه، فهو كثيراً ما يعطى نتيجة سلبية خاطئة (false negative)، بمعنى أنه إذا كان الطفل لا يشبه أباه فهذا لا يعنى بالضورة أنه ليس إبنه.

(**) حاول الأوربيون حزام العفة أثناء الحروب الصليبية وثبت فشله فى أداء المهمة. ناهيك عن وحشية الفكرة.

(***) تقول التوراة أن النبى سليمان كان لديه ١٠٠٠ زوجة وجارية، وكتب الإمام السيوطى أن الحسن بن على كان لديه عدد مماثل.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫3 تعليقات

  1. Great article, thank you. I’m always intrigued by the way societies became (and still) patriarchal, without any push back from the early matriarchal? No fight for the position of goddess? I think there are seeds for a book in the making?

  2. مع بداية الاستقرار في قرى مع مجيء الثورة الزراعية، تجذرت فكرة الزنا بمعنى سرقة الزوجة. الرجل يمتلك زوجته أو على الأقل حق استعمالها جنسيا. الرغبة في الامتلاك (نحو الرفيقة أو الرفيق) أقوى عند الرجل. أرجح أن تغليب الرجل للمونوجامية رغم غريزته البوليجامية هو قرار عملي: المصلحة تتحقق أكثر بالتزام كل رجل بأسرته الحالية، ولو كان على حساب الميل والرغبة. وعندما يحدث اتفاق ضمني (شبه تآمري!) في مجتمع ما (أو مجموعة ما) يتحول إلى تقليد tradition ثم إلى عرف ثم، إذا جاء حاكم من نوع حمورابي، إلى قانون.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى