كتّاب

قلت فليكن العدل في الأرض،…


قلت فليكن العدل في الأرض،
لكنه لم يمكن.
ورأى الربّ ذلك غيرَ حسن.*

زرت الضفة الغربية والقدس وتجوّلت هناك. أصدقكم القول: كانت قد تشكلت لديّ قناعة بأن المقاومة الفلسطينية مشروع إيراني إلى حد بعيد، أو اختطف إيرانياً. وأن السلام مع إسرائيل ممكن مستقبلاً. الجانب الإيراني في المقاومة اتخذ موقفاً أخلاقياً داعماً للحوثثيين. من الجيد أن هناك جانباً عربياّ داخل تلك المنظومة يقاوم إسرائيل والاختراق الإيراني معاً.

في رام الله سمعت قصصاً لا يمكن تصورها، ورأيت واقعاً ينتهك كل ما هو إنساني بلا رحمة. مثقف فلسطيني كبير، الأستاذ محمد الأسمر، أخبرني عن قصته. مستوطن اشترى قطعة أرض، ثم بنى عليها منزلاً. قطعة الأرض التي اشتراها قريبة من مساحة زراعية كبيرة يملكها صديقنا، عامرة بالزيتون (لا أتذكر كم دونم كانت المساحة، لكنها ميراث واسع). بعد أن أتم المستوطن بناء بيته اتخذ له كلاباً وحرّاساً واعتبر كل الأراضي المحيطة به عمقاً أمنياً لمنزله. قالت زوجة الأستاذ، وهي محامية وخبيرة قانون: صرنا ننتظر وصول المنظمات الحقوقية الأوروبية حتى نتمكن من رؤية أملاكنا، صارت أرضاً يباب.

في مثل هكذا حالات ينظر القضاء الإسرائيلي في المسألة، وهو قضاء لا يعترف للفلسطينيين بأي حق فيما يخص الأراضي في المنطقة C. وهي مناطق فلسطينية، بحسب أوسلو، بلا هيمنة قانونية للسلطة الفلسطينية عليها.

تمضي السيارة في وسط رام الله، فجأة تبرز مستوطنة بحواجزها العالية وطيران الدرون الذي يراقب كل ما حولها. عليك أن تغير خطوط سيرك. المستوطنات ليست على الأطراف كما كنت أتخيل، بل في كل مكان. أما القدس فحكاية أخرى. الجانب الشرقي من القدس تحكمه قوانين إجرامية، فالملكية تسقط عن الشخص الذي يترك القدس لمدة تزيد عن نصف سنة، يؤؤول ملكه إلى السلطات. أيضا يمنع أن توسع منزلك، في حال كبرت الأسرة. لا تملك الحق في وضع حجر واحد في المنزل، إذ كل شيء ملك لإسرائيل. طاف بي الدكتور يوسف النيتشه، رئيس مركز الدراسات المقدسية، في مركزه الأثري البديع، قال إن إسرائيل تمنع حتى ترميم حمامات المركز. تملك الكلمة العليا النهائية. وطافت بي المثقفة الرائعة نسب أديب حسين (ابنة شقيق سميح القاسم) في القدس الشرقية لعدة ساعات. تشتغل نسَب في الدراسات والبحوث المقدسية، كتابة وبحثاً. ما سمعته منها مثير، بطولي من جهة ومروّع من جهة أخرى.

خرجت بانطباع عميق يقول إن صراعاً كبيراً سيحدث، فتلك المدينة “الغالية والمقدسة” سيبتلعها الراديكاليون اليهود عمّا قريب أياً كانت الكلفة. من على تلة مرتفعة أرتني نسب القاسم كيف جرّف الإسرائيليون الحي المغاربي العتيق، بكل معناه التاريخي الآثاري، ليفسحوا مكاناً أوسع لحائط المبكى. سألتها عن موقف اليونسكو، المنظمات الدولية، العالم، من جريمة كتلك بحق أثر بشري غالي القيمة. هزت رأسها ساخرة من السؤال.

ما بقي لدى الفلسطينيين من الأرض تقضمه المستوطنات يوما وراء يوم. مئات الحواجز بين مدن الضفة. المتطرفون اليهود يملكون الكلمة الفصل في تل أبيب، يضعون الشروط والقواعد. لننسَ حفنة مثقفين يساريين يكتبون لهآرتس. إسرائيل تنغمس في دينها حتى النخاع، وهو دين مقاتل على كل حال. قالت دراسة قامت بها دالة برمجية لفحص النصوص إن ٥% على الأقل من نصوص التوراة تدعو لقتال الأغيار، مقابل حوالي واحد ونصف في المائة في القرآن.

لا يملك المفاوض الفلسطيني ورقة ضغط واحدة في مفاوضاته، القضاء الإسرائيلي هو المعني بمسألة المستوطنات وفقا لاتفاقيات أوسلو وملاحقها، وهكذا تصير المناطق C اللعبة التي تنهي من خلالها إسرائيل حلم الدولة الفلسطينية. حيث لن يتبقى من الأرض سوى أشرطة خراسانية داخل مجرة المستوطنات، ثم في رحم المحافظات الإسرائيلية الكبرى.

تحدثت إلى مستويات عديدة أثناء نقاشنا في رام الله، هناك من يمنّي نفسه بما سيصدر عن عملية التطبيع السعودية – الإسرائيلية، ربما يحصل الفلسطينيون على انفراجة ما كما حدث بعد عاصفة الصحراء. فقد كانت أوسلو ثمناً لموافقة العرب على إخراج العراق من زمن الصناعة (التعبير هنا لروجيه غارودي). لا أتحدث عن النظام الفاشي الذي أسسه صدام حسين، بل العراق.

تحدث بن سلمان إلى فوكس نيوز في الأيام الماضية حول تحسين شروط حياة الفلسطينيين كأحد عناصر العملية التطبيعية. مصطلح فضفاض ردت عليه الصحافة اليمينية في إسرائيل ب”لا” كبيرة. مثقفون وساسة في تل أبيب علقوا قائلين إن مسألة فلسطين لا ينبغي أن تكون ذات صلة بما يجري بين البلدين.
اقتصاد السلطة في قبضة إسرائيل، لا تستطيع حتى تحصيل ضرائبها. من إسرائيل تصلها حصة لا تكفي لدفع رواتب الموظفين. فالموظف يحصل فقط على ٨٠% من راتبه، وكارتاً إضافياً يخبره أن الحكومة مدينة له بالباقي! توقفت الدول العربية عن رفد ميزانية السلطة، عدا فتات بسيط يصلها من الجزائر. ترك الفلسطينيون فريسة لأسوأ فاشية تعيش تحت سمائنا الزرقاء:
الفاشية التلمودية.

إسرائيل دولة فاشية، حتى ضد نفسها، حتى ضد اليهودي نفسه. فهي دولة تصر على تأكيد طبيعتها اليهودية دون أن تعرّف من هو اليهودي في المقام الأول، كما لاحظ المسيري. تجعل المواطنية نظيراً للعقيدة!

ستكون هناك جولات صراع لانهائية ما بقيت إسرائيل في قبضة المنظومات الراديكالية التي لا ترى حقّاً للآخرين، ولا تراهم. قلت للأصدقاء: من الجيد أن هناك بلطجياً من الأهل، يستطيع أن يلكم الجار الأرعن من وقت لآخر، وإلا فما هي الأوراق التي بحوزتكم لجعل الإرهابي يفكر قبل خطواته؟

ما رأيته في مدن فلسطين كان مروّعاً، دولة فاشية تبتلع كل شيء وتحاصر كل شيء، ولا تحترم حتى معنى أن تكون دولة. تبدو، في حقيقتها، مجرد منظومة جهادية يحدد كتاب ملغوم (ألّف قبل ٢٦٠٠ عاماً) سياستها الخارجية والداخلية. أما ديموقراطيتها فهي عملية تهدف إلى توزيع الخير العام بين أفراد العصابة بالعدل والقسطاس، كما تفعل كل المافيّات.

الحق مع فلسطين في كل حالاتها، سلماً وحرباً.

ثم لكل حادث حديث.

م.غ.


* النص الشعري في المقدمة من قصيدة لأمل دنقل بعنوان “سفر التكوين”.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫40 تعليقات

  1. يعني البلطجي الارعن ربما هو من يتوصل عبره الى معادلة بموجبها يعترف فيها التلمود بأهل البلطجي وبحقه بالعيش والمساواة
    مالم فالبطجي سيتولد ويتكاثر ولن تستقر البلد الى مالا نهاية

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى