كتّاب

مروان الغفوري | محافظة بفكّة ـــــــــ الكتابة عن شؤون تعز مغامرة محفوفة

محافظة بفكّة
ـــــــــ

الكتابة عن شؤون تعز مغامرة محفوفة بالمخاطر، هل تريد أن تلقي بنفسك إلى "مغارة الدوشة" الأعظم؟
لكن، وأعتذر منكم عن العودة للكتابة في مثل هذه الشؤون ولن أكرر الأمر في الأشهر القادمة، ما الذي يجري هناك؟

ليس ثمة من صراع حقيقي بين إيديولوجيتين متناحرتين: القومية والإـ///ــلامية. تعز الرثّة، أرض الحرب البائسة، لا توفر السبيل لذلك. ثمة صراع على تركة رجال صالح، على غنيمة منقعة بالدم والعزلة. الإصلاح تنظيم إيديولوجي، الناصري مثله، ولكن الإصلاح حين يواجه الناصري فيبدو الأمر كما لو أننا أمام رجل يصطاد أرنباً بمدفع. يتسابق الحزبان جرياً وراء الرزق. يبدأ السباق هكذا: يقف الناصري بعشرة أشخاص على الخط، ويقف الإصلاح بألف شخص، ثم يبدأ الركض. ويتصايحان ويتزاغطان في الطريق مثل البط. يقول الإصلاح نحن الدولة، يقول الناصري نحن المدينة. إلى آخر ذلك الهراء الذي يتبادله الطرفان في سعيهما وراء الرزق.

في العادة يجري حول كل صراع شكلٌ ما من أشكال النقاش. لاحظوا إن اليمنيين "غير التعزّيين" يزودون صراعهم مع الحوثيين بالتاريخ، بالإحالة إلى فكرتي الدولة والديموقراطية، حتى إنهم يستدعون الشعراء والقوادات. تلك طبيعة الصراعات التي تحمل في جوهرها بذوراً إيديولوجية أو وجودية. لا يدير الإصلاح والناصري أي شكل للنقاش، بل يتزاغطان فقط. هُناك من سيقرأ هذه الكتابة وسيقهقه ويفسي. مثل هؤلاء يوجدون، دعونا نواصل الحديث عمّ يجري في أكبر محافظة سكانية في الجزيرة العربية..

الحقيقة أن الصراع يدور في مجمله حول 405 ألف دولار في الشهر، قرابة 5ملايين دولار في العام. لا يوجد سبب آخر، ولن يكون هناك سبب آخر. محافظة خرجت للتو من مأساة، تعرضت لما يزيد عن 120 ألف قذيفة، قدمت أكثر من 40 ألف قتيل وجريح على يد تشكيلات عسكرية قادها وأشرف عليها رجلان عملا معاً جنباً إلى جنب: أبو علي الحاكم، طارق صالح، ما لون الصراع الذي ستوفره إن لم يكن حول الغنيمة.

لنذهب إلى الفصل الأخير من الصراع:
قُتل الجنرال عدنان الحمّادي، قائد اللواء 35، في ظروف تسمح بتخيل كل السيناريوهات. أسس مقتله لما كان يسميه فرويد في "موسى والتوحيد": العقيدة الجديدة، أو الدين الجديد. في البدء تحدث الأضحية، أي الموت البشري الأليم والوحشي، ثم تخرج من نواة الأضحية فئة بشرية ذات ملامح دينية/إيديولوجية خاصة [مقتل الحسين فعل الشيء نفسه]. الحمّادية هي العقيدة الجديدة، وكعادة كل عقيدة فهي تخفي وراءها نوايا هيمنة واستحواذ [لاحظ أن الحوثية في آخر الأمر ليست سوى فكرة اقتصادية، وأن الحمادية ليست أكثر من فرصة مالية].

كان الحمّادي مقاتلا وقائداً، لم يكن أحد ضباط الصدفة.

ما حكاية ال 405 ألف دولار؟ هذا هو ما يهم في الحكاية، بلا فرويد بلا خرا.

كان الحمّادي يتحصل، شهرياً، على مليون ونصف المليون ريال سعودياً من قبل "الحامية الإماراتية" في عدن[405 ألف دولار]. تخرج الرجل من مدرسة صالح وعلي محسن الأحمر، من مدرسة سائر اليمنيين، وهو يعلم أن شعبه العظيم لا يعرض ولاءه جرياً وراء أفكار غامضة كالجمهورية والمقاومة. راح ينفق من ذلك المال على شيوخ الحجرية، جنرالاتها، ومثقفيها. صنع رجاله ودائرته، واعتمدت مصالح وحيوات أناس كثيرين على بقاء الرجل. المبلغ زهيد للغاية، كما تلاحظون، ولكن عليكم أن تتذكروا أن اليمنيين الآخرين باعوا صنعاء لإيران بأقل من ذلك المبلغ، بشوية بارود وسفينة مياه معدنية. من هو الرجل الذي قال يا عم ما أرخص الإنسان في البلدي؟

بعد مقتله أو استشهاده، بحسب عواطفك، وخروج الإمارات من عدن عهدت الأخيرة بالمبلغ المالي إلى الأخ الجنرال طارق صالح.
تفاجأت إنت، صح؟
أيوه. ينفق طارق صالح مبلغ مليون ريال ونصف [سعودي] شهرياً على اللواء 35. وهو يتحكم، عملياً، بالصغيرة والكبيرة.
وأنت تعلم أنه:
من يملك العملة
يملك الوجهين.

تأخر استلام الشمساني للواء سببه محاولات مستميتة من "الإخوة في تعز" لإلغاء القرار، وتعيين ضابط آخر مقرّب من طارق صالح قائداً للواء.
قبل أيام التقى مجموعة من ضباط اللواء 35 بالقائد المعيّن "الشمساني". أخبروه بشكل واضح: إذا استلمت اللواء سنخسر المليون والنص.

تخيل هذه الحكاية كما تشاء، اسخر منها أو صدقها، موقفك منها لن يغير شكل الحقيقة.
ولكن قبل أن تقفز عليها اقرأ هذه الجملة اللذيذة:
فشل الإخوة في تعز في مسعاهم، لأن هناك إخوة تعزيين آخرين قريبين من هادي أبلغوهم "شوفوا الواحد ممكن يمتخنث بس مش لهذي الدرجة". أيوه، استخدمت هذه المعاني اليمنية العظيمة في النقاش، نحن شعب الحكمة ونجدها دائماً.

في السعودية طورت الدبلوماسية اليمنيية تعبيراً فائقاً:
الأشقاء يشتوا .. إلخ.
وهكذا إذا أراد منك العيسي أو علي محسن الأحمر شيئاً، أن تفعل أشياء رائعة، سيبدأون دخولهم الدرامي بهذه القطعة: الأشقاء يشتوا. في الجدل الذي دار بين جباري وآل جابر، السفير السعودي، احتج جباري ضد تحكم السعوديين بالصغيرة والكبيرة، قال آل جابر إنهم دخلوا لمساعدة اليمنيين لكن اليمنيين أنفسهم أصروا على أن يحكمهم السعوديون. كان تعليقاً موفقاً من آل جابر طال عمره.

لقد بيع كل شيء، بلدكم وكرامتكم وأنتم. أما صراعكم فليس أكثر من مناقرة عبيد وموالي، يتقافزون مثل الجن في حقول ليست لهم.

أرجو أن لا تعتقدوا أني أعتقد أنه اكتشاف مذهل.

غير أن محافظة رهيبة وعملاقة يشتريها "نجل المهرب" باربعمية ألف، هذه لقطة لم أشاهدها في أي من أفلام الكاوي بوي التي شاهدتها، وكم شاهدت.

يملك طارق صالح الآن حوالي 40 ألف مقاتل [13 لواء]، وقد انضم إليه الجزء الأكبر من رجال أبي العباس وشكل لهم لواء تحت قيادته [اللواء 12 أو 13 مش متأكد وما اشتيش اتأكد بس قلتو شاقولكم].

لقد علمنا صالح حتى الخراءة. استجمع الراحل صالح كل قواه وأنجب تعز، وهي تعبير بليغ ومكثف عن الرجل نفسه. أردت أن أكتب: فلسفة الرجل، وخشيت عليه من الكلمة حتى بعد موته.

لا يمكنك أن تُحْضِر تعز إلى حالة سلم، فصراعاتها لا علاقة لها باختلاف الآراء، ولا بالإيديولوجيا. يحوم طارق صالح بالمال والرجال حول تعز، لا توجد وجهة أخرى للرجل. ستتراكم الفوضى، وسيدخل المدينة منقذا، وسيخرج الذين كانوا يحملون نعال عمّه تحت آباطهم ليقولوا له لقد انتظرناك كثيراً. لن يطول الأمر كثيراً.

ما يخيف في أمر تعز هو أن الأموال التي تدخلها شحيحة ولا تمكن قسمتها على كل الناس، وهذا ما يجعل الصراع حتمياً. قيل قديماً: حاصر مدينة إذا أردت أن تحول أهلها إلى مجرمين. هذا ما دفع حمود المخلافي لتأسيس تشكيلات عسكرية في الجبال والتباب. حمود المخلافي لا ينتج البضائع ولا يملك أمازون. أرجو أن لا تتفاجؤا إذا سمعتم أن كتائبه قطرية التمويل. محافظة عامرة بالسكان، ولا يوجد مال. انزلقت تعز من مصنع للسياسة إلى سوق للأدوات الناعمة الرخيصة.

تخففت من ذكر الأسماء، تجاوز التعقيد الأسماء. غيابها أو حضورها لن يفسد هذه القصة الفاسدة.

نهاركم سعيد يا عويلة

م.غ.

مروان الغفوري | كاتب يمني

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى