كتّاب

رمضان ومشاويره:…


رمضان ومشاويره:
عم مدبولى ونهايته الغامضة:
كانت المهنة الأهم والمستقرة لعم مدبولى أنه “عجلاتى”، فى زمن كان الغالب على المواصلات بين البلد وقراها: الحمار بالنسبة للفلاحين والدراجة أو العجلة للموظفين والطلاب، فلم نكن نعرف التوكتوك ولا الميكروباص، ولذلك كان انتشار العجل يسمح بوجود عدد من “العجلاتيه” تقوم بخدمته وإصلاح أعطاله، وتأجير مايمتلكونه من عجل للشباب كنشاط من أهم أنشطة الترفيه وقضاء الوقت، أو للكبار لقضاء مصلحة أو حضور مناسبة.
ومع هذا كان لعم مدبولى أنشطة عديدة، فهو يقيم فرن الكنافة البلدى فى الحى ” درب سيدى صلاح” طوال شهر رمضان، وهو رفاعيا يعرف لغة الثعابين ويعالج لدغاتها، ويجًبر كسور العظام، بوضع العظمة المكسورة بين خشبتين يختار شكلهما ونوعهما بعناية فائقة، ويعيد المفاصل المخلوعة لأماكنها، ويرقى الرقى الشرعية، والأهم من كل هذا أنه كان يستطيع تخليص أجساد الناس من الشياطين والعفاريت التى لبستها، سواء بااللين والهوادة والنصح أو بقراءة القرآن أو بالضرب العنيف والحرق أحيانا، وقد مهر فى حرفته الأخيرة حتى أصبح ممن يشار إليهم ويقصده الناس فى هذا الباب.
وكان عم مدبولى طويلا عريضا لحيما، هائل الحجم عريض الجبهة، قمحى اللون مع ميل خفيف إلى السًمرة، إحدى عينيه كبيرة ومفتوحة أكثر من اللازم، بينما الأخرى قد تهدل جفنها الأعلى حتى لا يستطيع أن يفتحها تماما، ولذلك فهو دائما ينظر لك بعين ونصف نظرة مخيفة ومهددة باستمرار، لم أعرف صوته فلم يكن يتكلم بصوت مرتفع وإنما بصوت هامس واثقا أن نظره من عينه المفتوحة تكفى ليعرف محدثه مايريد قوله.
وفى ذات عصرية كنا نلهوا أنا وإخوتى فى “الجنينة” الملحقة ببيتنا – ولم يكن لها من اسم الجنينة سوى نخلتين اسمتهما أمى على اسم أخوى الكبيرين: نخلة صلاح ونخلة محاسن، واستخدم بقيتها فى غرفة الفرن وغرفة وعشش الدواجن وطلمبة المياة وبينما ننهمك فى النط والقفز ومطاردة الدجاج والبحث عن بيضها تحت أكوام القش والحطب، إذ بأخى أحمد يدفعنى بعنف لأرتطم بالأرض ويجرى مبتعدا، فقمت مغتاظا أبحث عن طوبة كبيرة أنتقم بها منه، حتى عثرت عليها طوبة كبيرة من الطوب اللبن رفعتها ليذهلنى وجود ثعبان هائل أسود اللون يزيد طوله على المتر تحتها، راح يتحرك أمامنا بجوار الحائط ونحن نصرخ صراخا شديدا حتى اختفى فى شق أسفل باب غرفة الفرن.
بلهفة شديدة جاءت أمى على صراخنا، فعرفت حكاية الثعبان، فقالت لى: روح إنده لعمك مدبولى، فجاء الرجل ليسألنى أين كان الثعبان وكيف تحرك وأين اختفى؟ وجثا على ركبتيه فى وضع التشهد أمام الشق الذى أشرت إليه، وفرش حجر جلبابه أمامه وراح يتحدث بصوت هامس لنحو خمس دقائق بعد أن طلب مننا الصمت والابتعاد خطوات قليلة، ووسط ذهولى أنا وإخوتى شاهدنا الثعبان يخرج برأسه من الشق ويواصل الزحف ببطء حتى يصبح فى وسط حجر الرجل الذى همهم ثم حمد الله بصوت مرتفع ولف حجره على الثعبان وعقده بأحكام، ونهض لتنقده أمى “بريزة” كاملة فيسلم وينصرف
وعلى الرغم من قراءاتى فى العلوم وفى المنهج العلمى لا أجد لما فعله عم مدبولى مع الثعبان تفسير معقول ومقبول حتى اليوم.
بعد سنوات قليلة وذات صباح لم يفتح عم مدبولى دكانه، ومر اليوم وأيام بعدها، وراحت البلد كلها تتساءل عن سر غياب الرجل الذى لم يتغيب عن دكانه أبدا، وآخر ما سمعناه عنه أنه ذهب لعلاج بعض من قيل أنهم “ملبوسين” بالجان، ويسكنون على ضفاف ترعة الباجورية، وأنه قد بالغ فى ضرب وتعذيب جانهم وعفاريتهم.
فهل كانت معركة الرجل الأخيرة معركة مع تلك العفاريت التى رفضت أن تخرج من الجسد الذى لبسته؟
وبعد أيام أخرى طفا جثمان عم مدبولى الهائل على سطح مياة ترعة الباجورية على مبعدة كيلومترات عديدة من البلدة الهادئة.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى