كتّابمفكرون

جمال طه يكتب:…


جمال طه يكتب:

الحرب الأهلية في السودان، وترسيم «حدود الدم»
الولايات المتحدة تتعامل مع الحرب السودانية باعتبارها القوة المهيمنة بمنطقة القرن الأفريقي، وزارة الدفاع الأمريكية دفعت قوات عسكرية ضخمة إلى جيبوتي، الأقمار الصناعية رصدت جسر جوي من طائرات «سي ١٧ جلوب ماستر» الضخمة، التي تستخدم في مهام القوات الخاصة والاستطلاع والإسقاط خلف الخطوط، يمتد من قواعد القوات الخاصة واحتياطي الجيش الأمريكي في «فورت بينينج» و«فورت كامبل» بالولايات المتحدة الى قاعدة «كامب ليمونييه» في جيبوتي، كما نشطت الحركة بين قاعدتي رامشتاين الألمانية – مقر قوات أفريكوم- و«ليمونييه».. القوة الأمريكية في جيبوتي قرابة 2000 جندي، لكن الجسر الجوي عززها بقوات ضخمة، تسمح بالتدخل المباشر في السودان.
استمرار تدهور الموقف الأمني أدى الى تسابق دول العالم والمنظمات الدولية على سحب بعثاتها الدبلوماسية من الخرطوم.. أمريكا أغلقت سفارتها، وانتشلت البعثة الدبلوماسية بطائرات مروحية، انطلقت من «ليمونييه» وتزودت بالوقود في إثيوبيا نظرا لطول الرحلة «1126 كيلومتر».. الأمم المتحدة أبقت على عدد من موظفيها برئاسة المبعوث الخاص «فولكر بيرتيس»، فيما تم إخلاء المئات من موظفيها وموظفي السفارات الأجنبية والعربية والمنظمات الدولية عبر ميناء بورتسودان، تحت حماية أمريكية عبر أنظمة جوية بدون طيار.. «جون كيربي» المتحدث باسم البيت الأبيض أكد دفع قطعا بحرية الى بورتسودان، لمساعدة الرعايا الأمريكيين الراغبون في المغادرة «قرابة 16 ألفا»، إضافة الى القطع العسكرية البحرية المنتشرة قبالة الميناء.
والمؤسف انه في ظل انشغال السلطات السودانية بالحرب الأهلية، سُمِح بسيطرة المانيا على مهبط الطائرات بمطار «وادي سيدنا» العسكري شمال أم درمان، وبمجرد انتهائها من إخلاء جاليتها، تسلمت بريطانيا المهبط ودفعت أكثر من 1000 من سلاح الجو الملكي والقوات المسلحة، بخلاف قوات تقدر بـ 4000 جندي تمركزت في بورتسودان تحسبا للطوارئ.. حقيقة ان السبب الظاهر لوجود ذلك الحشد الغربي هو اخلاء الجاليات الأجنبية، لكن غياب السلطة يفتح الأبواب للسيطرة الخارجية، وضياع استقلال السودان.
تدهور الأوضاع الأمنية، وسرعة اجلاء الأجانب وإغلاق السفارات، مع ضخامة الحشد الأمريكي، أكد أن واشنطن والغرب يتعاملون مع الأزمة السودانية كامتداد للمواجهة مع روسيا في الحرب الأوكرانية؛ فحميدتي يمسك بمفاتيح مناجم الذهب في السودان وإقليم أمهرة الإثيوبي وأفريقيا الوسطي، والذهب أحد مفاتيح الصمود الروسي، والبرهان يتعرض لضغوط روسية لتشييد قاعدة عسكرية بميناء بورتسودان على البحر الأحمر.. انتصار حميدتي يحكم قبضة الروس على الذهب أهم أسلحتهم في الصمود الاقتصادي والمواجهة مع حلف «ناتو»، وانتصار البرهان قد يمنح موسكو مرتكزا عسكريا جديدا في أفريقيا، وكلا الأمرين أحلاهما مرُ لواشنطن، لذلك قررت تحويل الحرب السودانية الى حرب أفيال، تنتهي بسقوط الجانبين – الدعم السريع والجيش السوداني- على نحو يهيئ الرأي العام الدولي لقبول تدخل عسكري غربي لوقف القتال، وإحكام القبضة على السودان، لتحويلها الى سلة غذاء العالم، تعويضا عن ابتلاع روسيا للشرق الأوكراني الخصيب، تلك رؤية واشنطن لعلاقة الأزمة بالحرب الأوكرانية.
لذلك تتعامل الولايات المتحدة مع القوى المتصارعة دون مواءمات، حتى انها برأت نفسها بغطرسة من شبهة التواصل مع حميدتي قائد الميليشيات قائلة «أن ادعاءات قوات الدعم السريع بأنها نسقت معنا، ودعمت عملية إخلاء أعضاء السفارة، ليس صحيحا.. حد تعاونهم كان عدم إطلاق النار على أفراد المهمة، وذلك لصالحهم قبل أي شيء آخر».. كما انها لم تعلن تراجعها عن توجهها الخاص بإبعاد البرهان عن السلطة المدنية.. لكن المؤكد انها لن تتحمس للتدخل المباشر، طالما أن الأطراف السودانية لا تدمر الا نفسها، واشنطن قد تكتفي بأن تواجدها العسكري كأمر واقع، يمنع روسيا من الحصول على تسهيلات او قواعد في السودان.
***
يؤسفني أيها السادة، انه رغم كل هذه التطورات بالغة الخطورة، الا ان الأزمة السودانية لم تتضح ابعادها الحقيقية للرأي العام.. ما يفرض التذكرة بأن التاريخ السياسي للسودان منذ الاستقلال، عبارة عن صراع أطماع بين المدنيين والعسكريين حول طبيعة السلطة ونظام الحكم، دون إدراك ان ما يتعرض له السودان من تهديدات وجودية، تفرض مشاركة القوات المسلحة في التعامل مع القضايا المصيرية، ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة الى أنه ما ان ينجح النظام الحاكم في تنحية العسكريين عن قضية الا وتنتهي بالخراب؛ حكومة الانقاذ وقعت اتفاق السلام مع الجنوب عام 2005 دون مشاركتهم، فانتهى بكارثة الانفصال عام 2011.
وحكومة حمدوك المدنية وقعت اتفاقية سلام جوبا مع الحركات المسلحة نهاية أغسطس 2020، لكنها لم تنزع سلاحها، بل تركتها تتحرك بين الناس حشدا للأنصار، وقد حملت صك الشرعية، ما وضع دارفور وكردفان والنيل الأزرق على سطح صفيح ساخن، وشتت قوة الجيش والمؤسسات الأمنية.. الدول النامية التي تواجه تهديدات وجودية، ينبغي ان يكون الجيش عنصرا رئيسيا داخل المنظومة الحاكمة، بحكم رؤيته الاستراتيجية لمصادر تهديد الأمن القومي وآليات مواجهتها، وليس من صالح الوطن تنحيته أو تهميشه أو مواجهته بميليشيات موازية، وتجربة حكم الإخوان في مصر تؤكد هذه الحقيقة.. هذا الكلام لابد ان يقال دون خجل ولا وجل، حتى ان لم يعجب البعض.
***
والأخطر، ان الأزمة الراهنة في السودان تحتدم ضمن مخطط تقسيم المنطقة العربية «سايكس بيكو2»، الذي كلف البنتاجون «برنارد لويس» بإعداده، على نحو يتناسب والمصالح الأمريكية، وتضمن تقسيم 18 دولة عربية إلى دويلات صغيرة، ثم تناول الجنرال المتقاعد «رالف بيترز» مشروع التقسيم في وثيقة نشرتها مجلة «القوات المسلحة» عام 2006 تحت عنوان: «حدود الدم»، أكد فيها أن التقسيم لن يتم الا عبر الحروب الإقليمية والأهلية، وان الحدود الجديدة سيتم ترسيمها بدماء آلاف الضحايا.
لا موضع هنا لتناول تفاصيل ذلك المشروع الخبيث، الذي ندور في فلكه منذ ان ترجمته «كونداليزا رايس» الى «سياسة الفوضى الخلاقة» عام 2006، غير ان ما يهمنا هنا ان ما يتعلق بالسودان قد بدأ تحقيقه بالفعل منذ انفصال الجنوب بعد حرب أهلية دامية واستفتاء شعبي كان معروفا نتيجته مسبقا، بعدها نشبت حرب دارفور وانتهت باتفاقية الدوحة عام 2010، لكن مبررات الانفجار لازالت تتفاعل، ومازال «عبد العزيز الحلو» متشبثا بالمناطق التي حررها جنوب النيل الأزرق.. مخطط إعادة ترسيم حدود الدويلات السودانية بالدم، يمضى في طريقه المرسوم.
الحرب الأهلية في السودان امتدت لـ 57 عاما، وهي اطول فترة حروب القارة الافريقية، ما حول السودان «سلة غذاء العرب»، إلى بلد يعتمد على الإعانات والمساعدات الدولية كواحد من أفقر بلاد العالم، لكن الحروب السابقة كانت في أقاليم على أطراف الدولة، بعيدا عن القلب، بخلاف الحرب الراهنة بين الجيش الوطني وميليشيات الدعم، التي انطلقت من العاصمة الخرطوم، وضواحيها في مروي شمالا، والفاشر ونيالا غربا، والأُبيِّض في الوسط، والقضارف وكسلا وبورتسودان شرقا، وتغلغلت في المناطق السكانية الكثيفة، مما يعنى خسائر فادحة في الأروح والممتلكات، وإطالة أمد الحرب، والنتيجة «صفرية» لأن الكل فيها مهزوم، وتهدد باقتطاع جزء آخر من أراضي السودان، كل الشواهد ترجح انه إقليم دارفور، المشتعل بنزاعاته منذ عام 2003، بمبررات عرقية وقبلية، لينهب الغرب ثرواته من نفط وغاز طبيعي وأنقى خامات اليورانيوم في العالم.
***
المواجهة الراهنة في السودان «خنجر في شرايين مصر التاجية»، فالمنظمة الدولية للهجرة قدرت منتصف 2022 ان عدد اللاجئين السودانيين بمصر 4 ملايين، من بين 9 مليون لاجئ عربي، وهناك حاليا مئات الأسر السودانية تتدفق يوميا على مصر عبر الحدود البرية، مصر رحبت وترحب بهم، رغم بذور الكراهية والبغضاء التي زرعتها حكومات البشير في الشعب السوداني تجاه شقيقته الشمالية، والتي كان اعلامنا يغط في نوم عميق فلم يتصدى لها، وعندما يستيقظ نحتاج لسنوات كي نصحح تلك المشاعر السوداء.. والحقيقة ان المهاجرون يضاعفون الضغط على الاقتصاد المصري، ما يفرض مساعدة الجيش السوداني على سرعة إعادة الاستقرار والأمن في البلاد، لوقف موجات الهجرة.
مصالح الأمن القومي المصري يمكن ان تتعرض لتهديدات جسيمة جراء المواجهة الراهنة في الخرطوم، أولها ان يتربع على عرش السودان أحد أمراء الميليشيات في أفريقيا، أو ان تخضع للاحتلال الأمريكي، مما يفرض موقفا إيجابيا وحاسما، على نحو ما تم بإعلان الخط الأحمر «سرت/الجفرة» في ليبيا، الذي لولاه لاجتاحت تركيا – التي كانت تتحرك نيابة عن الناتو- منطقة الهلال النفطي الغنية، لتنتقل بالقوات والمرتزقة والميليشيات المسلحة الى حدودنا الغربية.. ذلك حق مصر في علاقتها بالنطاق الحيوي لأمنها القومي، الذي يسلم به العالم، بدليل ان أول اتصال أجراه أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة لبحث الأزمة بمجرد انفجارها كان مع الرئيس السيسي.. قولا واحدا، التزام موقف المتفرج من الأزمة، يحول حدودنا الجنوبية الى مركزا لتهديد الميليشيات او الاحتلال الأجنبي، كلاهما مر، وساعتها لن ينفع الندم.
***
كلمة أخيرة لابد ان تقال؛ مصر والسودان كانا عبر التاريخ القديم والحديث دولة واحدة متكاملة، كانت فيها خزائن الأرض، ومصدر إطعام العالم، كانت القوة العسكرية التي يهابها العالم، تهيمن على النيل مصدر حياتها وحضارتها، ولا تجرؤ قوة على مجرد التفكير في وقف جريانه.. هذه ليست أدبيات تُتلى، لكنها واقع تاريخي جيوسياسي، فرض على بلادنا ان تعتمد استراتيجيتها في مواجهة كل الغزوات الخارجية، على دفع جيوشها لملاقاة العدو خارج حدودها ببلاد الشام، حيث مصدر التهديدات، أما فترات الاستثناء عن تلك الاستراتيجية، والتي التزمت فيها مصر بـ «الكمون الاستراتيجي» فقد انتهت بهزيمتنا من الهكسوس والفرس، قبل ان نعانى الأمرين، حتى تم طردهم.
هذه حقائق رأيت التذكير بها وسط الأزمة.. اللهم فاشهد، اللهم بلغت.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Sameer Zain-Elabideen سمير زين العابدين

خريج الكلية الحربية فبراير 1969, أعمل حاليا في النظر حولي وأشياء أخري, عقلي هو إمامي ورئيسي

‫2 تعليقات

  1. هذا التقرير يشرح الموقف تماما
    وحقيقى يخوف من المستقبل وأعتقد
    رايحين معاه بخطى سريعة ولن ترحمنا
    الأجيال القادمة على تخاذلنا وخضوعنا
    خلال هذا القرن…حيث سبقتنا كثير من الدول أقل منا فى الإمكانيات والثروات. حفظ الله مصر..

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى