كتّاب

يا ليلة العيد آنستينا…


يا ليلة العيد آنستينا
ينتظر الناس بفارغ الصبر أذان مغرب يوم التاسع والعشرين من رمضان، وبقلوب مطمئنة ونفوس راضية، فقد انقضى الشهر الكريم الذى أوله مغفرة وأوسطه رحمه وآخره عتق من النار وقدر الله عباده المؤمنين على صومه وقيام ليله، ونجحت سفينة التدبير في الشهر كثير النفقات فى الوصول لبر الأمان، وتتعلق الآذان بالراديو المعلق، وعندما يذيع الراديو بيان دار الإفتاء وقد أعلنت أن اليوم هو المتمم لشهر رمضان، وأن غداً هو أول أيام عيد الفطر المبارك، تمتلئ النفوس بالبشر وترقص القلوب فرحاً، وينطلق صوت أم كلثوم الساحر، بكلمات رامي وألحان السنباطي، وكأنه زغرودة حياني منشدا «ياليلة العيد أنستينا، وجددت الأمل فينا.. هلالك هل لعنينا فرحناله وغنينا» وتنفتح أبواب المتعة الحلال، التي قيدها الصوم والسنن، والرغبة في ختم القرآن، وربما المتعة غير الحلال أيضا، فقد أنشد شوقي: رمضان ولي هاتها ياساقي/مشتاقة تسعي إلي مشتاق، وتستمر الزغرودة «حبيبي مركبه يجري/ونوره في النسيم يسري/قولوله ياجميل بدري/حرام النوم في ليلة العيد»، ويحرص أبي _رغم أنه تناول فطوره من ساعتين_ على طلب العشاء _ ليؤكد عودة عهد الغداء والعشاء.
ويلتقي في البيوت الكبيرة الإخوة والأخوات، والابناء والبنات الذين ساحوا في الأرض، فشرقوا وغربوا، وتزوجوا وعملوا فى المدن البعيدة،وحول أطباق الكعك والقرص والبسكوت والحلوي واليوسفي والسوداني وعقل القصب تتجمع الأجيال جدوداً وآباء وأحفاد، ويتهلل الجمع لكل قادم جديد وما يقتضيه القدوم من ترحيب حار وعناق وتعارف بمن انضم أخيرا للعائلة عريس أو عروسة أو مولود جديد، وسماع الأخبار عن المرضي الغائبين، ولا يخل الأمر من تعليق خبير على الشأن العام أو السياسى، وتقطع الضحكات الرنانة أحاديث الذكريات المتدفقة، وسير الجدود والجدات وحكايات الزمن الغابر.
فإذا ما أوشكت شمس يوم العيد علي الشروق، وبينما تنطلق آلاف الحناجر المؤمنة بتكبيرات صلاة العيد الشجية: «الله أكبرالله أكبر/لا إله إلا الله/ الله أكبر كبيرا/ والحمد لله كثيرا/ وسبحان الله بكرة وأصيلا” نتلقي “حماية العيد” المبهجة وسرعان ما نرتدى ملابسنا الجديدة ونهرع خلف الآباء والإخوة الكبار، وفى نموذج فذ للتواصل الإنسانى الفريد، والذى أظن أنه لا يوجد له مثيل على ظهر الأرض، يقوم المصريون بزيارة المقابر، لاستلهام ذكرى الراحلين– فى مشهد خالد يحدث ويتكرر منذ أيام الفراعنة – وأنا أظن هذا المشهد تكثيفاً عبقرياً للثقافة المصرية، يلتقى الجميع وترى الصغار وقد كبروا، وأمام المقابر وتحت أقدام الراحلين – الوقوف عند الأقدام لا عند الرؤوس – يلتقي جميع أبناء العائلة الكبيرة، يتبادلون جميعاً ضحكات هادئة ودموعاً علي راحل عزيز، ولا يخل الأمر من طلب توصية أو التوسط فى نهو أمر من الأمور وقضاء مصلحة، ومن العجيب فى ذلك المشهد الفريد ما تلاحظه من تفاوت فى الحظ والجهد والنصيب، فبين أفراد العائلة الواحدة الواقفين أمام قبر واحد لجدهم الأسبق ستجد من هم فقراء إلى حد التكفف بلا مهنة ولا عمل، وستجد الأثرياء والمشاهير الموفورين من كتاب وسياسيين وأساتذة يشار إليهم، وبعد سؤال عن الصحة والولد، وبعد الفاتحة وتوزيع ماتجود به نفوسنا من رحمة علي السائلين وقراء القرآن، نهبط من المقابر للمرور علي دور الأقارب والجيران، معيدين علي الكبار ومانحين للصغار العيدية وكأن سيول من السعادة والبهجة قد غمرت البيوت والشوارع يحملها أطفال بجلابيب جديدة وبدل وفساتين،بل بزات ضباط، يؤجرون عجلا مزدان بالكريشة ويعتلون العربات الكارو ويحملون من اللعب أشكالاً وألواناً: بمب، وصواريخ وحبش وإيطاليا، وبالونات، مسدسات وبنادق، طبول وشخاليل وزمامير وآلاف الأصوات العشوائية، التي تدفع الإنسان لكي يظل في حالة دائمة من الشوق إلي الحياة.. وكل سنة وانتم بألف خير وسعادة

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى