مجتمع الميم

تضامن كويري ضد الانقسام، والاستغلال، والنفاق – My Kali Magazine


English

بقلم: حازم ج
ترجمة: هبة مصطفى
العمل الفني: قضوضة

كثيراً ما قابلتني عبارة ساخرة تقول “من الرائع أن تكون ناشطاً كويرياً تحت حكم حماس بلا شك” في المناقشات التي لا تنتهي على مواقع التواصل الاجتماعي كلما عبّرت عن موقفي المناهض للقصف الإسرائيلي على غزة، وهي تعني ضمناً عدم إمكانية الجمع -بصفتي فلسطينياً كويرياً في الشتات- بين هاتين الهويتين، وفي حين أن “الهويات المتضادة” كانت متعايشة في المساحات الكويرية دوما، لا سيما المساحات المسلمة أو الناطقة بالعربية، إلا أن الهوية الفلسطينية تجد نفسها في مرمى النيران المباشرة للاحتلال الإسرائيلي.

مقدمة موجزة
لم يبدأ هذا الصراع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول أو حتى مع نكبة عام 1948؛ فقد بدأ بتأسيس الصهيونية عام 18971، والهجرة التدريجية لليهود الأوربيين إلى فلسطين خلال النصف الأول من القرن العشرين، وصدور “وعد بلفور” عام 1917 والذي أعلنت فيه الحكومة البريطانية عن تأييدها لتأسيس “وطن قومي لليهود” في فلسطين، التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني في أعقاب الحرب العالمية الأولى2، وكان جدي يستذكر مشاركته في حركة مقاومة الاستعمار البريطاني في ذلك الوقت، وكان يتحدث عن اليهود باعتبارهم جيرانه الهادئين والمسالمين، لا سيما من فروا من ألمانيا النازية على متن بواخر تحمل لافتات توسل كتب عليها “دمر الألمان عائلاتنا، نرجوكم ألا تدمروا آمالنا”، وفي عام 1948، ارتكبت الميليشيات الصهيونية المدعومة من بريطانيا مجازر في 531 بلدة وقرية فلسطينية، مما أدى إلى تهجير ما يقرب من 750,000 فلسطينياً وفلسطينية وولادة “دولة” إسرائيل.

عمل فني من إنتاج قضوضة مستوحى من صورة التقطها البريطانيون لسفينة للاجئين. تقول اللافتة “دمر الألمان عائلاتنا، لا تدمروا آمالنا”، وتشير التقديرات إلى أن 70,000 يهودي قد وصلوا إلى فلسطين قبل عام 1948 في إطار برنامج “عليا بت” (الهجرة غير الشرعية)، واعتقل البريطانيون 50,000 آخرين ووضعوهم في معسكرات للاعتقال (المصدر).

بعد 75 عاماً، احتفلت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بذلك باعتباره ولادة “ديمقراطية نابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط”، هذا على الرغم من بناء هذه “الديمقراطية النابضة بالحياة” لجدار فصل عنصري يمتد على مسافة 708 كيلو متراً وتأسيسها لنظام استعماري يقمع الفلسطينيين والفلسطينيات باستخدام عدد لا يحصى من التقنيات والأساليب، بغض النظر عما إذا كانوا/كنّ يعيشون/يعشن في غزة، أو الضفة الغربية، أو “في الداخل”، ومن غير المستغرب أن يدعم الغرب هذا.

على الرغم من هذا السياق، فإن الهوية الفلسطينية متجذرة بعمق في الذاكرة وإحياء الذكرى؛ فلطالما كان تراثنا المولود في زوايا مخيمات اللاجئين حاضراً على الجدران المرسومة بعبارات المقاومة الفلسطينية وشعاراتها، وحتى على فراش الموت، كان جدي يتذكر بساتين الزيتون التي كانت لدى عائلته أيام شبابه ويتحدث عن جني والدته لثمار الزيتون من الأشجار؛ فلا تزال شجرة الزيتون رمزاً لصمودنا وارتباطنا بالأرض والعزاء الجماعي.

تشتت الظروف المحيطة بحقوق مجتمع الميم عين+ في فلسطين
يتداخل الوجود والمقاومة ويترابطان معاً في نسيج دقيق ومعقد داخل المجتمعات الفلسطينية، مثل التطريز الذي يتميز به الثوب الفلسطيني، ويجد الفلسطينيون/ات من أفراد مجتمع الميم عين+ أنفسهم/ن داخل هذا النسيج المعقد؛ حيث يواجهون/يواجهن تحديات متجذرة في النضال الفلسطيني وسعيهم/ن إلى القبول.

ازداد النضال المبذول في اكتشاف الهوية تعقيداً مع تبني إسرائيل لممارسات “الغسيل الوردي” في تغطية سياسات الفصل العنصري التي تمارسها، وتنطوي ممارسات الغسيل الوردي على تقديم إسرائيل باعتبارها “واحة وملاذاً للمثليين/ات”، بما في ذلك من جانب ناشطين/ات كويريين/ات، وتحقق هدفاً مزدوجاً يتمثل في إبراز إسرائيل كمنارة لليبرالية (لدى الغرب) ووضع الفلسطينيين/ات من مجتمع الميم عين في إطار المتعاونين/ات المحتملين/ات (داخل المجتمع الفلسطيني)، وهو ما يعزز أسلوب “فرّق تسد” مع إجبار أفراد مجتمع الميم عين على أن يصبحوا/يصبحن مخبرين ومخبرات، ويجب فهم هذه الممارسات على أنها تكرار آخر للسرديات الاستشراقية، التي أُعيد توظيفها الآن لخدمة الأجندات القومية لمستعمر جديد.

يُعمَل باستراتيجيات الغسيل الوردي هذه على مستوى “الدولة” والحياة اليومية وتنتج خوفاً ملموساً، وقد ذكر لي صديق من الضفة الغربية أنها “تؤثر على كل شيء، بدءاً من كيفية استخدامنا لتطبيقات المواعدة ووصولاً إلى كيفية تواصلنا كمجتمع؛ فعندما أستخدم هذه التطبيقات، أكون متنبهاً باستمرار وأحاول معرفة ما إذا كان الشخص الذي أدردش معه من إحدى المستوطنات، فحيث أعيش، يمتد الشعور بالأمان لمسافة كيلومتر واحد فحسب، وأحظر على الفور أي أحد أشك في أنه من المستوطنات، لخوفي من احتمالية أنه قد يعرفني”، وتابع قائلاً “بين الحين والآخر، نسمع قصصاً عن شخص ذهب في موعد رتّب له على إحدى التطبيقات لينتهي به الأمر إلى التعرض للابتزاز، ويخاطر إما بأن يصبح مخبراً أو تُكشف هويته لأسرته ومجتمعه”، وهذا الخوف لا يفارقه عندما يكون خارج فلسطين؛ حيث يكون حذراً على الدوام وقلقاً من احتمالية وقوعه في فخ ينصبه له أحد ضباط الموساد.

ترجمة التغريدة: أول علم للفخر يُرفع على الإطلاق في غزة. أراد “يواف أتزموني” أحد أفراد مجتمع الميم عين+ إرسال رسالة أمل إلى سكان غزة الذين يعيشون في ظل وحشية حماس. كان هدفه هو رفع علم الفخر لأول مرة كدعوة للسلام والحرية.

لكن ما تصوره إسرائيل على أنه “واقع” الكويريين/ات الفلسطينيين/ات يتناقض تناقضاً صارخاً مع تجاربهم/ن المعاشة؛ فهم/ن يتعاملون/يتعاملن مع تقاطع معقد بين الهوية الكويرية والنضال الوطني، ويواجه الكويريون/ات الفلسطينيون/ات الاضطهاد من “الجانبين”، لكن ينبغي النظر إلى ذلك في سياق الاحتلال والحصار المفروض على غزة منذ 16 عاماً؛ فالمجتمع الفلسطيني منقسم في ظل هذا النظام، ويخضع لنُظُم معقدة من نقاط التفتيش والقيود، ويحكمه نظام قانوني تمييزي يعاملهم، في أحسن الأحوال، باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، وبغض النظر عن النتيجة، تشعر الأحزاب السياسية الفلسطينية بأنها مضطرة إلى ترسيخ هوية فلسطينية متماسكة تستند إلى مجموعة ضيقة من القيم.

يختلف هذا الوضع باختلاف السياقات؛ ففي الضفة الغربية، تقمع الحكومة الفلسطينية الكويرية دفاعاً عن “القيم التقليدية” على نحو أدى إلى حظر منظمات مجتمع الميم عين+ وتأجيج العداء العام، وفي غزة، هناك تجريم للممارسات الجنسية المثلية، وداخل الحدود الإسرائيلية، يتعامل الفلسطينيون/ات مع مشهد من التمييز المنهجي؛ فهوياتهم/ن الكويرية تفاقم التمييز الذي يتعرضون/يتعرضن له بالفعل بسبب إرثهم/ن الفلسطيني، الأمر الذي يجعلهم/ن مواطنون/ات من الدرجة الثالثة، وينطبق الشيء نفسه على من يلتمسون/يلتمسن اللجوء داخل الحدود الإسرائيلية بسبب قضايا الميول الجنسية والهويات الجنسانية.

دور الشمال العالمي
كشف تصاعد العنف مؤخراً في غزة عن ازدواجية؛ فالحكومات الغربية، بينما تناصر حقوق الإنسان، غالباً ما تجبر الفلسطينيين والفلسطينيات على لعب دور “الضحية” لكسب جزء من التعاطف، وهذا امتهان للكرامة يفاقم من معاناة شعب محاصر بالفعل؛ فتوقع أنه يتعين على الفلسطينيين/ات تبرير معاناتهم/ن وإظهارها لعالم مُشكِك يضيف بُعداً من الصدمة النفسية إلى الصدمة الجسدية التي يسببها الصراع.

لا زلنا نرى المنظمات غير الحكومية الدولية، بما في ذلك الكويرية منها، تُظهر صمتاً انتقائياً في مواجهة الفظائع المرتكبة في غزة على الرغم من وفرة الأدلة التي تصور العدوان الإسرائيلي وقمع الفلسطينيين/ات بوضوح، وكما هو الحال مع العديد من حكومات الشمال العالمي، لا يقوض هذا الصمت ادعاءات عالمية حقوق الإنسان فحسب، بل يكشف أيضاً عن التأرجح بين المناصرة والملائمة السياسية.

لقد وصلنا إلى نقطة إما تعبّر فيها المنظمات، والحكومات، والأفراد عن تضامن شجاع أو تتخذ موقفاً صامتاً متواطئاً

سنتذكر استجابة حركات مجتمع الميم عين+ – أو غيابها – في هذا المنعطف التاريخي؛ فمحنة الفلسطينيين/ات الكويريين/ات ليست مجرد هامش في سردية الصراع الأوسع، بل عدسة ناقدة يُنظر من خلالها إلى النضال من أجل حقوق الإنسان في المنطقة؛ فنضالهم/ن من أجل الاستقلال والسلامة الجسديين ليس منفصلاً عن السعي الفلسطيني الجماعي من أجل التحرر، وهو معركة ضد احتلال يسعى إلى التقسيم والتفرقة، وضد هياكل مجتمعية تشجع الصمت، وضد سردية عالمية تحجب الواقع المتعدد الأبعاد لحياتهم/ن.

تتطلب اللحظة الحالية – التي أشعلتها طموحات حكومة نتنياهو من أجل ضم القطاع والتطهير العرقي – تضامناً تقاطعياً يتجاوز حدود سياسات الهوية وقيودها، ويتمتع الشمال العالمي، بما لديه من تأثير هائل على إسرائيل من خلال العلاقات الدبلوماسية والمساعدات العسكرية، بالقدرة على الدعوة لحل سلمي يُعتبر الآن مطلباً مثيراً للجدل، ومع ذلك، تبقى إمكاناته مقيدة بالسردية السائدة المتمثلة في “الدعم غير المشروط” لإسرائيل، بغض النظر عن القائمة المتزايدة لانتهاكات حقوق الإنسان، وتظل مقيدة أيضاً بالنزعة الغربية نحو إدامة السرديات الضارة للقومية المثلية3، وذلك ما رأيناه في التغطية الإعلامية الاختزالية لحياة الكويريين/ات في الشرق الأوسط خلال كأس العالم 2022 في قطر.

لقد وصلنا إلى نقطة إما تعبّر فيها المنظمات، والحكومات، والأفراد عن تضامن شجاع أو تتخذ موقفاً صامتاً متواطئاً، ويتطلب النضال الذي يهدف إلى تفكيك آلية القمع الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء التغلب على النُهُج أوروبية التمركز هذه، ويتطلب الاعتراف بالترابط بين الهويات والنضالات من أجل الكرامة والحرية، بدلاً من اختيار من هم/ن الضحايا “الجديرين/ات” وفقاً لمعايير غربية.

التأكيد على التضامن التقاطعي
يجب أن تكون استجابتنا مراعية للفوارق الدقيقة، لكنها حازمة، في مواجهة هذه التحديات متعددة الطبقات، والسبي
.إلى ذلك هو تقديم الدعم الصريح والقاطع لحقوق جميع المجتمعات المهمشة.

تتطلب تقاطعية التجربة الكويرية الفلسطينية تضامناً يتجاوز مجرد الإقرار بالنضال ويناصر من أجل التحرر الفلسطيني والتحرر الكويري في آن معاً، وتتطلب الاستماع إلى التنظيم الكويري في المنطقة وفلسطين ومنهما، مثل queersinpalestine@، بدلاً من وضع الافتراضات بالنيابة عنهم/ن، وتتطلب من المجموعات المدافعة عن حقوق الإنسان والكويريين/ات تسخير نفوذها مع حلفاء إسرائيل الغربيين للضغط من أجل وقف الاحتلال، والإبادة الجماعية، والتمييز.

يجب علينا – سواء كنا مدافعين/ات عن حقوق الإنسان، أو ناشطين/ات كويريين/ات، أو منظمات غير حكومية، أو حلفاء يعملون محلياً وعالمياً – توسيع نطاق كفاحنا من أجل المساواة والدفاع عن رؤية للعالم تكون فيه الحقوق أمراً مسلّماً به، وليس مجرد امتياز يمنحه الأقوياء.



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى