كتّاب

كلمتي في الحفل:…


كلمتي في الحفل:

في ليلة بعيدة، قالت لي جدتي عليها السلام، إنها رأت في منامها عصافير تطير من بين دفاتري التي كانت مبعثرة في زاويتي بمنزلها، ومنزل جدتي تاء القرية، تنتهي به قريتنا وتبدأ منه القصيدة، يقف كحارس السماء، تحته الضباب، ولا شيء بعده إلا انحدار الجبل للبحر، واعتناق الشمس والماء والشاطيء والأفق في مرايا الغروب..
ومنزل من خشب وزنك وصلوات وحكايا، فيه قهوة قشر على النار، وجرة فخار تحت الشجرة رواء للعابرين، وفيه أثير إذاعة صنعاء ورحاب المسجد الحرام، وفيه ملامح آلاف الوجوه وروح جدتي، وجدتي أسطورة من قبل الأساطير، خُلقت من نفسها وخلقتنا من خيالها ومن القصص الخارقة للملائكة والرسل والأولياء والشياطين والرعيان والتائهين والبدات والسلاعي..

لقد كانت جدتي في الطفولة تحرث لي أرض القصيدة وتلقي البذور في مخيالها، وتأخذ القصيدة وطفلها إلى خلدها الأبدي.

في الربيع الذي كبرنا فيه أزهرت شجرة جدتي من هتافات الحرية في شوارع صنعاء، وأثمرت قصائد وأغاني ومُعجبات ورفاقاً وسُبُلا وشوكا وحاسدين وأحبة وأطفالا، ولا تزال الشجرة تعلو والزهر يحلو والعصافير تطير من بين أوراقي كما رأتها جدتي في ليلة بعيدة..

وفي الربيع الذي طال فيه نخل الحرية، بدأت أول خطوة حقيقية للشعر الذي ظل طويلا رابضا في دفاتري الخاصة كقطة كسولة لا تتشمس ولا تشم الهواء، فثارت على نفسها في الربيع، وتسلقت المستحيل حتى لمست الشمس وجلعت الريح حصانا والغيم بساطا والنجوم خبزا والضوء نبيذا معتقا.
..
ولقد كان شباب الثورة لي الظلال والأغصان، السماء والأفق..
وكانت توكل أجنحتي الناعمة التي طرت بها، فكيف أسقط، وكيف لا أحلق في الأعالي..
لقد صنعت لي هذه المرأة العظيمة، قبعة من خيوط الشمس، وأرجوحة في عنق القمر، وكانت نورا وظلالا في الدروب ولسان صدق في العالمين.

أما بينها وبين جدتي
فلقد كبرت مع الشعر منذ نعومة كلماتي..
في المدرسة كنت أختار إلقاء قصيدة الشعر في برنامج الطابور المدرسي..

في أحد البيوت القديمة والمهجورة في قريتنا، لقيت امريء القيس مغمورا بغبار السفر، فلحقت معه بقيصر وعشقت ليله الطويل.

وفي مكب نفايات بأطراف القرية، عثرت على كتاب شعر مهتريء، بلا ملامح ولا غلاف ولا عنوان، فحفظته كما أحفظ الفاتحة، وما زلت أحفظ قصائد كاملة منه كأنني لقيته للتو وقد صار اسمه عشرين قصيدة حب.

في المرعى وأنا أرعى شياه أمي، صادفت أبا القاسم الشابي وهو يرعى مع الرعاة، ويجلس مع صاحبي ابراهيم في الجانب الآخر من المرعى، وحين أخذته منه نسيت غنامتي في جانب الجبل، وذهبت مع الشابي إلى الغابة أتأمل السنوبر والخضرة وغناء العصافير وخرير الماء وصدى الأغاني.

وفي المدرسة أيضا، كان كتاب النصوص الأدبية، هو كتابي المقدس، عشت فيه قرونا كثيرة، وعمرا أطول من عمر نوح، من معلقة عمرو ابن كلثوم إلى قصائد حسان بن ثابت، ومن نقائض الفردق وجرير، إلى ذهب المعاني عند أبي تمام وقلق المتنبي، ومن مدائح شوقي ونبوءات البردوني إلى أغاني نزار ومطر السياب، ومن دموع الخنساء ورابعة العدوية إلى سكون نازك الملائكة وعنفوان فدوى طوقان، ومن جدارية درويش إلى ألوان المقالح على قمريات صنعاء..

لقد عرفتهم واحدا واحدا، ونسيتهم واحدا واحدا، لكي أقطف زهرة الشعر التي لي وحدي.

فأنا لم أتخلق في مجالس الشعر وأسابيع الشعراء، ولا في فقاسات الأنظمة والمخبارات، ولا في مطارح القبيلة، ولم أكن بهلوانا في مهرجانات السِرك العربي، أو مداحا في بلاط الملوك..

لقد جئت من أحزاننا جميعا، متكئا على نفسي، وصاعدا للأعلى كدعاء الأمهات الذي لا يرد.

وإنني اليوم هنا، أقطف أول زهرة في شجرة الشعر، وأهديها قبل أي أحد لأمي البعيدة وأبي الذي تحول بيني وبينه الحرب ولزوجتي الحبيبة في الضفة الأخرى من البحر الأبيض، وأهديه أيضا لصانعة هذا الكرنفال العظيم، ولكل من ٱمن بي، ووقف بجانبي لو بكسرةٍ صغيرةٍ من خبز الإعجاب، ولكل الذين سخروا مني عندما قلت لأول مرة إنني شاعر.
لقد طارت العصافير يا جدتي


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

عامر السعيدي

أغنية راعي الريح

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى