كتّاب

فى ذكرى الشهيد البطل…


فى ذكرى الشهيد البطل
شهدى عطية الشافعى (1911-15/6/ 1960
ولد شهدى بمدينة الإسكندرية وحصل على ليسانس اللغة الإنجليزية من جامعة فؤاد الأول وعمل معلما للغة الإنجليزية وابتعث للحصول على الماجستير من جامعة أكسفورد، وعاد ليكون أول مصرى يعمل مفتشا عاما للغة الإنجليزية بوزارة المعارف، وإنضم لأكبر التنظيمات الشيوعية، وساهم فى تأسيس اللجنة الوطنية للطلبة والعامل التى قادت ثورة 1946، وكتب مع رفيقة الجبيلى كتاب “أهدافنا الوطنية” الذى وضع برنامج للتحرر الوطنى والعدل الاجتماعى ورأس تحرير مجلة “الجماهير”، ولنضاله وتفانيه وتضحياته وصلابته احتل موقع الزعامة فى قلوب رفاقة بلا منازع، وأصبح وهو بعد فى الثلاثينيات من عمره واحد من أهم المثقفين المصريين وممثلا لمصر فى مجلس أنصار السلام العالمى، وكان يتميز بمنكبيه العريضين وطوله الفارع، وفى سنة 1947 حكم عليه كأول سجين يسارى بالسجن سبع سنوات، ومن السجن تحمس لثورة يوليو وأيدها، وكتب للدفاع عنها كتابة” أمريكا والشرق الأوسط ” وخرج من السجن ليواصل نضاله ويعد كتابه الرائع “تطور الحركة الوطنية المصرية”، وعلى الرغم من تأييد القطاع الأكبر من اليساريين لثورة يوليو إلا أن تمسكهم بتنظيماتهم مستقلة عن تنظيمات الثورة قد أدى لاستمرار ملاحقتهم والقبض عليهم وتقديمهم للمحاكمات العسكرية الجائرة، وفى مطلع عام 1960 قبض على شهدى والمئات من رفاقة، من خيرة كتاب وأدباء وفنانى ومفكرى مصر، يكفى أن نذكر منهم: لويس عوض، والفريد فرج وعبد العظيم انيس ومحمود امين العالم، وفنحى عبد الفتاح وطاهر عبد الحكيم وحسن فؤاد وصلاح حافظ وفريد حداد وسعد زهران وعبد الحكيم قاسم وعبد الستار الطويلة وفؤاد مرسى واسماعيل صبرى عبد الله والفنانين محمد حمام وعلى الشريف وفؤاد حداد، وكلهم نجوم فى عالم الفكر والثقافة والعلم فى وقت كان الحاصل على الابتدائية يتباهى بلقب “أفندى” المهم فى فجر يوم 15 يونيو، وصلت سيارة الترحيلات تحمل 48 معتقلا على رأسهم شهدى إلى بوابة “ليمان أبو زعبل” وأعدت حفلة التعذيب، التى تقوم بها مجموعة من أحط البشر يرأسها اللواء اسماعيل همت، والصاغ صلاح طه وحسن منير ويونس مرعى، واليوزباشى عبد اللطيف رشدى، قبل الأوردى بمئات الآمتار يخلعون ملابسهم ليصيروا عرايا تماما، وينهال عليهم الجلادون بالشوم والكرابيج، ومن يقع منهم مغميا عليه يغطسون رأسه فى مصرف صغير، وعند باب الليمان أجلسوهم جميعا على الأرض القرفصاء وهم عراة وراحوا ينادونهم ثثلاث أفراد بثلاث، كانت أولاها يتقدمها المناضل شهدى، وعلى الباب دار الحوار التاريخى بين البطل والقاتل المنحط عبد اللطيف رشدى: اسمك ايه ياله .. اسمى شهدى.. فاكر نفسك علم يا ابن ” المت…” ..قول اسمك: اسمى شهدى عطية الشافعى وانت عارفنى ياعبد اللطيف يارشدى.. وبين كل جملة وأخرى يومئ اسماعيل همت للجلادين خلفه فينهال الشوم على رأس وأكتاف البطل الدامية، وعندما يغمى عليه يسارع طبيب حقير فيعطيه حقنة منشطة ويجعله يستنشق غازا منبها كالنوشادر، وأخيرا أمره القاتل أن يقول: “أنا مرة – يقصد إمرأة بالعامية -” وتطلعت أعين الرفاق للزعيم، الذى لم يقل: “أنا مرة”، بل قال لنفسه: “ما أهون أن ينهار الجسد، وتنقطع الأنفاس، إذا كانت البطولة كاللواء المخضب بالدماء، ستنتصب عالية فوق رؤوس الجلادين؟ ما أهون أن يموت الجسد ويعيش الموقف والمبدأ والاختيار الحر النبيل” فسقط من هول الضرب شهيدا، وقد افتدى رفاقه وتركهم مرفوعى الرؤس، ليعيشوا من بعده ويكتبوا مذكراتهم التى تتحدث عن صمودهم البطولى فى مواجهة القهر والتعذيب، وعندما قال الطبيب المصاحب: خلاص انتهى، ارتبك الجلاين فكفنوه على عجل وعلى عجل كتب تصريح الدفن وتقرير الطبيب الشرعى ..”سبب الوفاة هبوط حاد فى الدورة الدموية والقلب” ولأن شهدى لم يكن قليل الشأن أو ضئيل المكانة فلم يكن من السهل لفه فى بطانية ميرى ووضعه على سيارة نصف نقل ودفنه فى الصحراء ثم كتابة :”هارب” أمام اسمه فى كشوف السجن، ولذلك استدعى أبوه ليتسلم الجثمان مع تعليمات بأن يدفنه فورا بلا إعلان وبلا دعوة لجنازة وبمصاحبة سيارات المباحث ومنع إقامة سرادق للعزاء وانما مجرد تلاوة القرآن فى المنزل، فصمم الرجل العنيد على رؤية وجه إبنه بعد أن تهكم على تقرير الطبيب الشرعى وهو يعرف أن ابنه ملاكم قدير ومازل يمارس هوايته فى الجرى عدة كيلومترات فجرا على كورنيش النيل، وإزاء رفض المباحث هدد الرجل بترك الجثمان فمالذى يخشاه وهو يرى ابنه الكبير الذى كان حصاد أيامه ومناط أحلامه، ابنه الشامخ الذى ملأ الدنيا وشغل الناس جسدا هامدا بلا حراك فوافقوا أخيرا وكشف الرجل وجه ابنه المحبوب ليرى نياشين الشرف التى تتزاحم على الرأس والوجنات والحواجب والأعين والشفاة جراء الضرب الشرس، كما شهد أكليل الغار الذى يحيط بالجبين المتوهج، رغم برودة الموت، فانحنى وطبع على الجبين قبلة ملتاعة، اعقبتها بضع قطرات من الدموع الحارة، وغطى الوجه وأصطحب الجثمان وأنصرف .. المهم لم تكن صفحة الوفيات بالأهرام قد خضعت بعد لرقابة الرقيب، فكتب رفيق شهدى “محمود توفيق” نعيا من أبيات أبى تمام، تقول
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة .. تقوم مقام النصر لوفاته النصر
تردى ثياب الموت حمرا فما دجى .. لها الليل إلا وهى من سندس خضر
وقد كان فوت الموت سهلا فرده .. إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف العار حتى كأنه .. هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
ولأننى من سكان المقطم فإن وصولى إلى وسط البلد يفرض على أن أسلك طريق مجرى العيون وفى نهايته يصبح على يسارى أعلى نقطة من سور مجرى العيون وعلى يمينى العمارة التى عاش فيها شهدى .. فأسير إليها وأقول لمرافقيى هنا عاش شهدى عطية الشافعى.. فأقروأ له الفاتحة
رحم الله البطل العظيم
… ويسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى