مجتمع الميم

هيكيكوموري الهوية الجندرية – ترانسات Transat


كتبــ/ــت: چوي چوته

محاولة جديدة

 

مرة اخرى.. ها أنا ذا، جالسة أمام دفترى بذهن شارد وكف متراخي حول قلم لا يسعه فعل شئ إلا خط  دوائر غير منتظمة تتداخل فيما بينها لتُحيل لون الصفحة الى اللون الأسود بعد ما تآكل لون قِدمها الأصفر أمام تلك المسارات اللامنتهية للقلم، هذه المحاولة الـ.. مممم لا أدرى؛ توقفت عن العد عند المحاولة الثالثة عشر ولا أعلم لماذا ربما هو رقم حظي أو بؤسي من يعرف! كنت أحاول أن أنهى ذلك النص العالق في رأسي كخليط من الأفكار المتضاربة التى ترفض الخروج ككلمات مقروءة ولكن لاشئ.. مازال خليط الأفكار هذا يضرب برأسي عرض الحائط ويأبى الخروج، ربما قد مر عام على أولى محاولاتي، عام تخلله عدد لا بأس به من محاولات السرد وتجميع المصادر والموارد التى قد تساعدنى في دعم نصي والكثير والكثير من الانهيارات ومحاولات الصمود في الحياة لكن في النهاية ها أنا ذا مرة أخرى أبدأ نصي بالكتابة عن عدم استطاعتى الكتابة، حيلة قديمة اعتدت أن أخدع عقلي بها ومكنتني من إخراج هذا النص من محبسه وتفكيك خليط أفكاره التي تؤرقني.
فلنبدأ إذاً..

 

 

يالها من كلمة، هذا الوقع على آذاننا المسكينة وتلك الرهبة المدمرة التى تبعثها في أنفاسنا؛ لما يطاردنا هذا المفهوم كالبعبع في الظلام؟

في محاولاتها لفهم المجتمعات الإنسانية وأنماطها الحياتية والثقافية قسمت دراسات علم الإنسان المجتمعات إلى ثلاثة أنواع تبعاً للثقافة المسيطرة على كل منهم، وهم:- مجتمعات ثقافة العار، مجتمعات ثقافة الذنب ومجتمعات ثقافة الخوف والذي يرفض البعض تصنيفها على أنها ثقافة مجتمعية بذاتها ولكن يعتبرونها جزء لا يتجزأ من الثقافتين الأخيرتين. سأحاول هنا شرح كلاً منهما دون الخوض في الكثير من الهراء الأكاديمي.

قدمت الباحثة وعالمة الإنسان  روث بنديكت محاولة لفهم ثقافة المجتمع الياباني من خلال كتابها “الأقحوان والسيف” وصنفته على أنه أحد مجتمعات ثقافة العار على عكس المجتمع الأمريكي القائم على ثقافة الذنب وللتفريق بين المجتمعين علينا أولاً فهم خصائص كل نمط إجتماعى ليسهل علينا فهم كلاً منهما، في مجتمعات ثقافة العار تتكون البنية الإجتماعية من أوسط عائلية ضخمة  (الأسرة الممتدة، القبيلة ، العشيرة) حيث يتكون بناء سلطوي هرمي تتدرج فيه سلطة الأفرد على بعضهم البعض، وسلطة العائلة أو القبيلة أوالعشيرة عليهم جميعاً في حالة المجتمعات التي تتكون من قبائل وعشائر. أما من ناحية القيم والأخلاقيات المجتمعية فتستمد مجتمعات ثقافة العار قيمها عادة مما هو متعارف عليه على أنه عيب أو حرام والذي يكون مستمداً من الأديان بجانب العادات والتقاليد والأعراف المجتمعية، والتى عادة ما تكون ذات سلطة أقوى من السلطة الدينية. وينقلنا الحديث عن السلطة الى الرقابة والمشاعر المسيطرة على الأفراد في مجتمع ثقافة العار فالرقابة في مجتمع العار رقابة مجتمعية قاسية ولا تتسامح أبداً مع أى انتهاك للقيم والأعراف المجتمعية والدينية والتي عادة ما يتبعها وصم ونبذ وإقصاء لكل من تسول له نفسه المساس بها، الأمر الذي يجعل دائماً المشاعر التى تسيطر على مجتمع ثقافة العار هي مشاعر الخوف والقلق بالتأكيد، حيث تجعل تلك المجتمعات من أفرادها أشخاص مهددين دائماً بالوصم أو الإقصاء الاجتماعي مما يجعلهم قلقين دائماً من التعبير عن ما بداخلهم تجنباً لرفض المجتمع له ولهم/ن بالتبعية.

أما في مجتمعات ثقافة الذنب فالأمر مختلف تماماً حيث تتكون البنية الإجتماعية عادتاً من أوساط صغيرة كالأسرة الأولية (أب، أم، أبناء) ولا يكون فيها أى بناء سلطوى إلا للوالدين ولا يكون لبقية أفراد الأسرة الممتدة علاقة أو دخل في شؤون الأسرة. وتستمد مجتمعات ثقافة الذنب قيمها مما هو متعارف عليه على أنه صواب أو خطأ والذي عادتاً ما يكون مستمداً من الفلسفات والدين أما عن الرقابة والمشاعر المسيطرة على الأفراد في مجتمع ثقافة الذنب فالرقابة ذاتية ولا تكون للمجتمع سلطة قوية على سلوكيات الأفراد مما يجعل من تلك المجتمعات أكثر تحرراً من مشاعر الخوف والقلق من الوصم حيث تكون المشاعر المسيطرة غالباً هي مشاعر الذنب عند إرتكاب أى خطأ، ولا أقول هنا أن أحد المجتمعات أفضل من الأخر أو أن ثقافة العار أسوء من ثقافة الذنب فكل من الثقافتين لها مساؤها لكني ببساطة أريد أن أركز على مجتمع ثقافة العار لأني أعيش فيه، واتأثر بما يفرضه عليِ.

 

 

بالعودة لليابان كأحد مجتمعات ثقافة العار نجد الكثير من المعتقدات والظواهر الاجتماعية المبنية على تلك الثقافة، كطقوس السيبوكو مثلاً، وهى فلسفة الانتحار اليابانية الأشهر والأكثر قدماً، وللانتحار في اليابان مكانة متميزة سواء كان من المنظور الديني أو الثقافي أو الاجتماعي نتيجة لتراث تاريخي معقد وفريد، ما تزال آثاره مستمرة إلى اليوم، ويعتبر السيبوكو أفضل تجسيد لهذه الخصوصية الثقافية، فقد انتهجه محاربين الساموراي كطقس مستحق للتقدير كما كانوا يروه، حيث كانوا يستخدمون هذا الطقس لغسل ما ألحقوه بأنفسهم وبأهلهم –وهو الأهم– من عار وخزي، أو في إثبات براءتهم، أو لفداء جماعتهم، أو للهروب من عار الأسر في أيدي الأعداء، وقد تم منعه رسميا عام 1873. ورغم المنع إلا أن اليابان مازالت تعانى من الظواهر المبنية على ثقافة العار المتأصلة في المجتمع الياباني، كظاهرة “هيكيكوموري” والتى تعد الصورة الأكثر حداثة والأقل عنفاً من طقوس السيبوكو النتحارية، وفيها ينسحب الأفراد اجتماعياً وينعزلوا في منازلهم لسته أشهر متتابعة على الأقل، دون الذهاب إلى المدرسة، العمل أو التفاعل مع الناس خارج إطار أسرهم/ن وقد تطول المدة لتصل إلى سبع سنوات.  

أرجعت بعض الدراسات سبب ظاهرة هيكيكوموري الى طبيعة الهيكل الاجتماعي الجامد و الأعراف اليابانية الصارمة والتى تضع ضغطاً شديداً على الأفراد، وتتوقع من الجميع أن يتوافقوا مع بعض المعايير الاجتماعية والاقتصادية وإلا قد يلحق بهم العار واتهامات الفشل، مما يجعل أولئك الذين لا يستطيعون أن يتوافقوا مع تلك المعايير يهربون إلى الانعزال والابتعاد عن المجتمع. ولا يحتاج الأمر لأعين ثاقبة لرؤية مدى تشابه تلك الظواهر مع أخرى مماثلة تحدث في مجتمعاتنا التى نعرفها. بالتأكيد لا أملك احصائيات مؤكدة لكني أعلم أننا جميعاً قد نواجه مثل هذه الانعزالات أو نراها في دوائرنا القريبة إن لم نكن نمر بها نحن، فمجتمعاتنا تتشارك مع باقي المجتمعات الشرقية في كونها أحد المجتمعات التى تتأصل فيها ثقافة العار وربما بشكل أكثر سُمية وتوحش، تتأصل ثقافة العار في المجتمعات الشرقية بشكل كبير، فنجد الكثير من جرائم الشرف والثأر والانتحار خوفاً من جلب العار للعائلة. وبالحديث عن العائلة يجب علينا ألا ننسى تلك السلطة المطلقة التى تتمتع بها العائلة/القبيلة على حياة الأفراد المنتمين لها، في مصر مثلاً وخاصة في الأماكن البعيدة عن الحضر كصعيد مصر وريفها ومجتمعاتها البدوية نجد انصهار شبه تام لمفهوم الفردانية والحياة والحرية الشخصية فحياتك يتشارك فيها معك كل من تربطك به صلة قرابة، وبالتبعية فإن ما يقوم به المرء مهما كان خاصاً ونابع من شعور بالذات، إلا أنه يؤثر على كل من حوله حتى لو لم يكن كذلك فعلاً، في أفضل الأحوال لن يجبرك أحد على شئ لكنهم سيقاطعونك، يتجاهلوا وجودك، ينكروا أنك منهم أو أنهم يعرفونك، وهذا أدني ما يمكنهم فعله أتذكر أن امى قاطعتني لشهرين حين وضعت قرط في حاجبي، الجميع هنا لهم/ن اليد العليا عليك: أهلك، أصدقائك، قبيلتك، عشيرتك جميعهم يريدونك أن تكون مثل رؤاهم وقناعتهم يريدونك مثلهم ليس لأنهم يكرهونك بل لأنهم يظنون دائماً أنهم الأفضل. قناعتهم هي الأفضل ونمط حياتهم هو الأنسب ورؤاهم هى الأصح

 

 

عابرين/ات في مجتمع العار

 

في بنية اجتماعية كهذه من البديهي أن تكون أوضاعنا كعابرين/ات جنسياً/جندرياً متدنية وسيئة. فمجتمعاتنا ترى هويتنا ومحاولات تصالحنا معها من مسببات العار، الأمر الذي يزيد من مشاعر الكراهية والرفض المجتمعي التي نتعرض لها كعابرين/ات جنسياً/جندرياً مما يعطي للحكومات فرصة أكبر لاضطهادنا والتنكيل بنا للتأكيد على أنها ستظل تحافظ على البناء الاجتماعي في صورته المحافظة، لمداعبة مشاعر الاصوليين/ات الذين تعتبر أنهم/ن يمثلوا/ن الجانب الأكبر من مجتمعاتنا الشرقية من جانب، وللتغطية على تدني أداء تلك الحكومات من جانب آخر.

لا نملك احصائات أو بيانات مؤكدة تكشف مدى سوء ما نتعرض له ونواجهه كل يوم، فليس من السهل العمل على احصائات كهذه في مناخ اجتماعي تعلوه الكراهية، كذلك الذي نعيش فيه، فوسط كل هذا لن يكون من الآمن سواء للباحثين/ات أو لنا كعابرين/ت جمع أو المشاركة في عمل أي احصائات أو بيانات تشرح وتعرض أوضاعنا ومشاكلنا واحتيجاتنا وانعدام حقوقنا وما نتعرض له يومياً من أمور قد تستحيل معها الحياة.

لهاذا نعبر عن هويتنا، ولهاذا نحاول أكثر وأكثر لانتزاع حقوقنا؛ قضايانا كعابرين وعابرات جنسياً وجندرياً حقيقية، وجودنا حقيقي، لسنا ظاهرة اجتماعية على السلطات مواجهتها، ولسنا نتاج للتلقيح الفكري أو للحداثة، لا نحاول خلق موضة أو صيحة، إننا نصارع من أجل حياتنا، من أجل حقنا في الوجود، هذا ليس جدال حول زي معين أو قصة شعر ما، هذا جدال حول حقنا في الوجود حقنا في رعاية صحية مناسبة حقنا في التعليم، في التوظيف، في مناخ عمل أمن، في قانون يحمينا في الكثير والكثير من الامتيازات التى يتمتع بها باقي أفراد المجتمع ويرون أنها بديهية.

هل فكر أحدكم يوماً ما أن ما تفعله المجتمعات من ممارسات مناهضة لحق مجموعة ما من البشر في اظهار هوياتهم/ن والعيش بها والتعامل معها بشكل طبيعي بلا وصم أو ازدراء ونبذ سيؤدى بالضرورة إلى هلاك تلك المجموعة أو انسحابها من البناء الاجتماعى، الأمر الذي يجعل تلك الممارسات مهما بلغت بساطتها لا تختلف كثيراً عن جرائم التطهير العرقي والاضطهاد الديني أو أي ممارسات إجرامية أخري.

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

چوي چوته: كاتبـ/ــة لا ثنائيـ/ـة الجندر

العمل الفني للفنانة العابرة: نور الجندي

 



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى