كتّاب

نشرت عشر تدوينات خلال يوم واحد، كلها حول ما جرى في ساحل اليمن الغربي….


نشرت عشر تدوينات خلال يوم واحد، كلها حول ما جرى في ساحل اليمن الغربي.
منذ العام 2018 وأنا أفقد حماسي، بالتدريج، لملاحقة ما يجري في اليمن. هناك حيث تشابك دخان القُرى، وبمقدورك أن تكون بطلاً وخائناً في الآن نفسه. فقد اليمن شعبه قبل أن يجري العكس. الشعب كدالة تاريخية، أو: ما الذي يجعل اليمني يمنياً، انهار على نحو يصعب علاجه حالياً. ولكن لماذا كتبت التدوينات العشرة؟ هل استعدت حماسي دفعة واحدة؟ تأثير الشتاء؟ ضغوط شخصية؟ سأم؟ غضب مكتوم؟ فائص أدرينالين؟ أثر الحقيقة؟ ربما خليط من كل هذا، ومن ذاك. كتبت التدوينات خلال وقت قصير، كرجل يقدم شهادة ويمضي في سبيله. لم يعد ممكناً إحياء البلاد وإعادتها إلى سابق وضعها. الممكن حالياً هو مزيد من التمزيق، المزيد من الحفر، وخلق أعداء جدد، أو: إحياء عداوات كاد الزمن أن يطمرها. أردت في الأيام الماضية أن أكتب: لا تناصبوني الكراهية فأنا معكم. مع الحوثيين وهم يحاولون اقتحام مأرب، مع مأرب وهي تقف بشكيمة ضد الحوثيين، مع الانتقاليين وهم يحاولون تشطير البلاد، ومع البلاد وهي تواجه نوايا التشطير. مع الإمارات وإيران وهما تقتسمان البلاد، مع السعودية وقد انحصر تأثيرها في معبر أو معبرين. مع عمان وهي تفعل الشيء ونقيضه، مع العفاشي القديم والعفاشي الحديث. أنا معكم، فلا تناصبوني الكراهية. الحقيقة أني أشعر بالندم لأني كتبتُ عشر تدوينات خلال يوم واحد. ما الذي كنتُ أنوي قوله؟ أخطر على بالي أن كلمات فارغة حتى من المجاز يمكنها أن تفعل شيئاً، خصوصاً إذا ألقيت في بحيرة تعج بالتماسيح والعظام؟

قضيت العامين الماضيين متفرّغاً للطب والآداب، حصّلت الشيء الكثير. كنتُ أتخوف قبل عشرين عاماً من يوم يكون فيه الخلاص الفردي هو المتاح الوحيد. تجري البلاهة والشرود في الأوعية التي كانت تعج يوماً بالتيستيستيرون والأدرينالين. تحدق في كارثة أهلك وكأنك تنظر في التاريخ. ينسحب طارق من الحديدة، فليفعل. لقد انتهت اللعبة قبل سنوات كثيرة، ما يجري الآن مجرد قصص قصيرة داخل الكتاب الأم. المتن الأم قائم كما هو، لن يغيره سقوط المدن ولا نهوضها. لقد اغتصب اليمني نفسه، اغتصبها بكل العنف والشراهة. ثم جلس يحدق في مآلاته ويبحث عن فاعل. كل الأسئلة غبية، وأغبى منها الإجابات. آلت اليمن إلى بقعة تثير شفقة كل الدنيا. لم يعد ممكناً توزيع الضحايا إلى فاعلين ومفعولين، ولا إلى أبطال وحرامية. بعد أن اغتصب اليمني نفسه أطلق نداءه إلى الآخرين، وجاء الخليج وإيران وفعلوا به. جيل جديد نشأ إلى العلانية، دخل إلى السيرك فاعلون كانوا قبل عشرة أعوام تلاميذَ صغاراً. شاخ الجيل الذي اغتصب نفسه سريعاً، وذهب كل شيء. لن تنقذوا شيئاً، وربما سيكون أفضل أقدار تلك البقعة أن تذهب إلى أسوأ أعدائها. من يدري. ماذا بمستطاعك أن تفعله لشخص يغتصب نفسه كل يوم؟ تكثف تاريخنا في الأعوام العشرة الماضية ولم يعلمنا شيئاً. لماذا كتبت عشر تدوينات حول الساحل؟ أنا لا أفهم شيئاً عن السواحل ولا الحروب. يعيش اليمني الراهن في ضعفه الأقصى، وفوقه تزمجر قوى مزودة بسلال السلاح والمال. الجياع مرتزقة جيدون، المرتزقة يبيعون البلدان، البلدان يفقدها أهلها إذا ضربهم الجوع، الجوع يقوض المملكات. الكهول لا يزالون في المقدمة، في الطليعة. صحيح أنهم أصبحوا أكثر بطأ ولكنهم يعرفون الطرق القصيرة إلى الشيء. يصلون أسرع. لم يعد ممكناً معالجة الكارثة بالكلمات. ثمة محاربون رائعون يقفون داخل ذلك الطوفان آملين أن يوقفوا الكارثة. يموتون الواحد تلو الآخر، ويوماً ما لن يتبقى منهم أحد وسنبكيهم حتى تتداخل أسماؤهم وننساهم. اختلطت دماء كثيرة وتشابه البطل والخائن. كتبت عشرة تدوينات، كنت غاضباً لأن الساحل الإماراتي ذهب إلى الإيرانيين. أو: لأن القوات المملوكة إمارتياً سلمت البحر إلى القوات المملوكة إيرانياً [يستخدم اليمنيون كلمات أنيقة مثل: المدعومة]. تداخل دخان القرى وتشابه الشيء ونقيضه. فقدت البلاد شعبها، وشعبها يصر على القول: لقد فقدنا بلادنا. كتبت عشر تدوينات حول مسألة لا سبيل لإصلاحها، عن أمر غيابه يشبه حضوره، وعن فاعلين مفعولين. المنتصر والمهزوم يملكه شخص ثالث. لم يكن قراراً أن أفقد حماسي، كان نزيفاً مستداماً لكل شيء: الحماسة، الأدرينالين، الطريق، والمعركة. لا يمكن للشخص أن يقامر في مسألة لا تفضي إلى نصر ولا هزيمة. انزلقت المعركة إلى طبقات من الفوضى، وتفرخت شعوب جديدة. القوات التي فرت من الحديدة انقسمت في الطريق إلى ثلاثة شعوب: شعب تشبث بتهامته، شعب عاد إلى أرضه الجنوبية، وشعب سلك الجبال إلى تعز. كل شعب من الشعوب الثلاثة سيغتصب نفسه مستقبلا ويتفارخ إلى شعوب أصغر. ثمة مقاومون أبطال لا يملكون ترف الانصراف إلى الآداب والطب. سيقاتلون، وسيموتون. ستكون ميتة رائعة وعظيمة في بلد لم يعد يوفر سوى شرف وحيد: الموت بطلاً.

م.غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى