كتّاب

من فوق مأذنة الحسين…


من فوق مأذنة الحسين
فى ذكرى العملاق عبده الحامولى (1836-1901):
على الرغم من أن المصريين عرفوا الموسيقي والغناء منذ أقدم العصور، إلا أنه حتى عهد محمد على (1805-1848) لم يكن هناك لونا وطنيا من الغناء، فقد كان هناك الغناء التركى والفارسي والموشحات الأندلسية التى تغنى فى قصور الأمراء وأناشيد الصوفية وترانيم الكنائس، وكان هناك المواويل الصعيدية والبحيرية الحمراء والخضراء وفن الواو وأغانى العوالم والغوازى وملاحم بيبرس وعزيزة ويونس وابو زيد، وأغانى الأفراح والعمل والفلكلور، حتى أسس محمد على مدرستين لتعليم الموسيقي لتخرج عازفى الفرق العسكرية جلب طلابها من الشباب الماهر فى العزف والغناء من مختلف انحاء البلاد واستقدم معلميها من أوربا، وبعد أنهيار مشروع محمد على وتسريح فرق الموسيقي العسكرية، سعى هؤلاء إلى تأسيس المدرسة المصرية الحديثة فى الموسيقى والغناء، التى تبلورت معالمها على يد تلامذتهم من عباقرة التلحين والغناء، ومنهم الشيخ عبدالرحيم المسلوب الذى يعد خير من أنشد الأذكار الصوفية ومحمد عثمان أشهر من غنى الدور، ومحمد سالم العجوز، ويوسف المنيلاوى، وسلامة حجازى، ومحمد العقاد عازف القانون الفذ.
غير أن أشهرهم كان عبده الحامولى (1836 – 1901)، والذى لمع كالنجم فى سماء التلحين والغناء، وأصبح نديماً للخديو إسماعيل واصطحبه معه فى إحدى رحلاته إلى إسطنبول، حيث استبقاه السلطان العثمانى ومنعه من العودة لمصر ليستمتع بغناءه فى بلاطه الكبير، حتى أوعز إليه بعض محبيه أن يقول للسلطان وكان صوفيا كبيرا، أنه خادم لضريح أحد صوفية مصر، وفى اليوم التالى قال الحامولى للسلطان: أنه خادم لمسجد وضريح الشيخ الطشطوشي (عبد القادر الدشطوطى بباب الشعرية) وأنه زاره فى المنام باكيا وزعلانا منه لأنه قد قصر فى خدمته وامتنع عن زيارته منذ زمن طويل، فبكى السلطان وسمح له بالعودة بعد أن منحه هبة كبيرة لتجديد مقام سيدي الطشطوشي، المهم عاد الحامولى الى مصر
وكوّن تختاً رائعاً كان يصاحبه فى الغناء فى قصور الأمراء والأعيان وفى السوامر الكبرى التى لا يقدر على ارتيادها إلا الأثرياء، وتزوج من أشهر مطربات عصرها «ألمظ» ومنعها من الغناء إلا فى حرملك الأمراء، وراح «سى عبده» – كما أحب المصريون مناداته – يغنى الأدوار والموشحات والطقاطيق، ومنها: «ليه حاجب الظرف يمنعنى وأنا مدعى/ لرى روض المحاسن من دما دمعى / قوللى بحق المحبة إيه سبب منعى.
كما غنى من تأليف إسماعيل صبرى: «عشنا وشفنا سنين ومن عاش يشوف العجب/ شربنا الضنا والأنين/ جعلناه لروحنا طرب/ غيرنا تملك وصال وإحنا نصيبنا خيال/ كده العدل يا منصفين».
وغنى أيضاً ومن تأليف الشيخ عبدالرحمن قراعة «مفتى البلاد» تصدق؟ / الله يصون دولة حسنك على الدوام من الزوال/ ويصون فؤادى من نبلك ماضى الحسام من غير قتال
المهم أن عبده الحامولى كان تقياً، ورعاً، مؤدياً للفرائض، كثير الطاعات، حج إلى بيت الله الحرام، وكان يعرف أن لربه عليه حقا، إذ منحه هذا الصوت الملائكى الذى جلب له الثروة الطائلة فكان يتصدق كثيراً، غير أن أحد كبار الشيوخ سأله: – وكنا فى شهر رمضان- ياسي عبده أليس للفقراء حق فى صوتك؟ فكانت إجابته: أى نعم، وأنا أحفظ للفقراء حقهم من كل قرش أكسبه، فقال الشيخ: لا يا سى عبده أنا أقصد حقهم فى صوتك، لا فى أموالك، فقال عبده الحامولى: وكيف يكون ذلك وأنا أغنى فى القصور أو فى سوامر لا يقدر على دخولها إلا كبار الأثرياء؟ – ولم يكن مكبر الصوت قد ظهر بعد – فقال الشيخ: يبقي من فوق مئذنة الحسين تصعد إلى أعلى مئذنة سيدنا الحسين وتنشد لهم من الأذكار والتسابيح ما تيسر لك،
وهكذا أعلن فى الناس أن «سى عبده الحامولي» سينشد من فوق مئذنة الحسين، بعد صلاة التراويح، وراحت ارتال الناس تزحف من مختلف أحياء القاهرة إلى مسجد الإمام الحسين وساحته الواسعة، وتتوهج أنوار «الكلوبات» أمام الدكاكين والمحال فى الحى العريق وتمتلئ أسطح المنازل والمساجد المحيطة بالمحبين، وفى صخبهم وضجيجهم، تتطلع أعينهم إلى مأذنة الحسين، ويمر الوقت متثاقلا حتى لاح خيال المغنى الفارع فيصمت الناس تماما ويخيم على الليل صمت مطبق، ويرتفع الصوت الشجى منشداً «يا خير مبعوث لأكرم أمة/ أنت المؤمل عند كل ملمة/ فكن الشفيع لنا لأعظم رحمة/ فجمال وجهك ظاهر متبسم/ فبحقه صلوا عليه وسلموا»، -«اللهم صلى عليك يانبى» تهتف آلاف الحناجر بقلوب عامرة بحب الله وعطشى إلى القرب والوصول، وكأن خيوطا حريرية من الرحمة والحنان قد انسدلت لتصل ما بين السماء والأرض
ويحمل النسيم الرائق صيحات الاستحسان الهادرة من الحشود الغفيرة إلى المنشد العملاق فى أعلى المئذنة فيواصل الإنشاد مبتهجاً: «يا من تحل بذكره عقد النوائب والشدائد/ يا من إليه المشتكى وإليه أمر الخلق عائد/ إنى دعوتك والهموم جيوشها قلبى تطارد/ فرّج بحولك كربتى يا من له حسن العوائد/ أنت الرقيب على العباد وأنت فى الملكوت واحد/ أنت العليم بما بليت به وأنت عليه شاهد”
ومرة ثانية تهتف الجموع: «الله» فيعود الحامولى للإنشاد، حتى إذا ما أوشك وقت الفجر على الدخول، سبح الحامولى لله، تاركا للناس فسحة لطعام السحور، فيعودون إلى سحورهم وقد سحرهم الإنشاد الورع، وامتلات قلوبهم بحلاوة الإيمان وحب الحياة
كان الناس وقتها يؤمنون بحق وحقيق أن الله جميل يحب الجمال …. يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى