كتّاب

مروان الغفوري | .. تلك السنة 1 ــــ كانت سنة رهيبة، نبحت فيها الكلاب


.. تلك السنة
1
ــــ
كانت سنة رهيبة، نبحت فيها الكلاب وتعاقب عليها الليل والغمام.
في اليوم الأول سمعتُ أسماء المعلمين الثمانية.
الرياضيات، العربية، الانجليزية، الكيمياء، الفيزياء، الأحياء، الإـ///ــلامية، القرآن الكريم.
فصول المرحلة الإعدادية تعاني من نقص حاد في المعلمين، مدير المدرسة يرفض استقبال دفعة جديدة خوفاً من مفاجأة سياسية. الدفعة التي التحقت بالمدرسة في العام الماضي ذهبت إلى حزب الإصلاح. الأجواء مشحونة، هناك انتخابات برلمانية نهاية العام، سوء التقدير قد يكلف مدير المدرسة كثيراً.
أعرف المدرسة جيّداً، فهذا هو العام الثاني لي هُنا. قدمت إليها من مدرسة في أعلى الجبل اسمها "الجهاد"، وهي مدرسة عظيمة وشديدة الفقر قضيت فيها عشرة أعوام لم أجلس على كرسي واحد، ولا لبضع دقائق. في الثالثة إعدادي طلب مني معلم الإنجليزية، وكان جامد الملامح وطيب القلب، أن أقرأ نصاً بالإنجليزية، فعلتُ. وقبل أن أجلس على التراب مرة أخرى مسحت بنطلوني بيدي، تطاير التراب وأصاب زميلي، توعدني بالعقاب، تعاركنا، غلبته، شكلنا عصابات، اشتبكنا مرات ومرات، انتهى الأمر بكسر في ذراعي الشمال لا تزاله آثاره حتى الآن. وفي العام التالي، نهاية السنة الثانوية الأولى، سأغادر المدرسة مفصولاً.
تلك قصة أخرى، نائية.

في اليوم الأول يدخل شاب بهي، ملامحه ودودة وصارمة في آن. يقرقع أصابعه، وبصوت يشبه أصوات الشعراء الغرباء يقول:
افتحوا دفاتركم، اكتبوا.

يمشي بين صفوف الكراسي، يشبّك بين أصابعه، جيئة وذهاباً، نكتب خلفه:
تقدموا
كل سماء فوقكم جهنمُ
وكل أرض تحتكم جهنمُ
تقدموا
يموت منا الطفل والشيخ
ولا يستسلمُ
وتسقط الأم على أبنائها القتلى
ولا تستسلمُ
تقدموا
بناقلات جندكم
وراجمات حقدكم
وهددوا، وشردوا، ويتموا
وهدموا
لن تكسروا أعماقنا
لن تهزموا أشواقنا
نحن القضاء المبرمُ.

تصعد القشعريرة من قدمي إلى رأسي، تقفز دمعتان، أواريهما، أضع القلم على الدفتر، أذهب بعيداً، لا أتذكر شيئاً، لا أسمع شيئاً. أسأل زميلي إياد المجاهد، رحمة الله عليه: ماذا قال؟ يجيبني: قال إن اسمه عادل العقيبي وأن القصيدة لسميح القاسم. تغيّر شكل الأدب، صار للكلمات ظلال وأكثر، رأينا الشعر واللغة لأول مرّة. كان ذلك هو أثر العقيبي، ووجد جماعة منّا في الرجل يسوعاً خاصاً.

كنتُ أكتب الشعر في تلك الأيام، انتهيت لتوي من "دفتر شعري" أسميته من وحي الدياجي، ولم أعرف قط لماذا الدياجي وليس الليالي. في اليوم التالي جئت وقد كتبتُ قصة. أسميتها دوحة الأمل، ولن أعرف قط لماذا دوحة وليس شجرة. طبعتُ القصة، وكانت مكتوبة في أربع صفحات. بعد الحصة السادسة أرسلتها بالفاكس إلى صحيفة الثقافية ويبدو أنهم سألوا أنفسهم لماذا دوحة، وهكذا فإن القصة لم تنشر قط. تأخرتُ في المدينة، وفي المساء عدت مع صديقي إلى وادي الضباب على ظهر هيلوكس. كان صديقي يقلّب النسخ المصورة من القصة، ينظر إليّ بإعجاب، ثم ترك وقاره جانباً وقال: والله اشتهرت يا مروان قدهم يطبعوا لك. لم تمرّ علي ساعات أحسست فيها بالزهو كمثل تلك الساعات، حتى إني أردت أن أقول للراكب الذي طلب مني أن أوسع له مكاناً "أنا مروان الغفوري". حلّ الليل، عاد الحطّابون، وأنّ كلب على الطريق. ترنّحت السيارة وكدنا نتساقط مثل المتاع. تصايح الناس، صحتُ بالسائق، وكنتُ أقربهم إليه، قال صارخاً وهو يحرك يده من نافذة السيارة"يا أخي حنش". صاح أحدهم "إيش من حنش ادعسه" رد بصوت مرتجف "كيف أدعسه هذا حنش"، ولما سمع ضحك الناس قال منكسراً "يا أخي اعتميتو".

12 ثانوية آنذاك، تتطاير الأسماء مثل الجن، المدينة تشبه الكولوسيوم، نحن مجالدون، المعلمون يرددون: الفرص قليلة، إذا لم تتفوقوا فقد أضعتم كل شيء. الطالب محفوظ في الشعب انتهى من الرياضيات، الطالب بدر في ثانوية تعز يلقي دروسا في التفاضل، فلان في سام يعلم زملاءه الأحياء، فلانة لا تنام سوى ساعتين في الأسبوع. هل تعرف ما معنى سنة كبيسة؟ الجواب: لا. ضاعت حظوظك، فلان في ثانوية تعز يعرف معنى السنة الكبيسة، حتى إنه كتبها بالانجليزية على السبورة وأحرج المعلم. أجواء من الفانتازيا والرّعب، النوم مرادف للفناء، الطلبة الشطار لا يلقون التحية على أحد، الجميع يتبادل الدعاية والكذب، نحن خائفون، نجّنا يا ألله. أبي يقول لي بصرامة: بعد الثانوية العامة ستترك المنزل وستذهب إلى المعسكر مثل باقي الناس، ومثل فلان [يذكر اسماً]. أرد عليه بحذر، فأبي لا يقبل النقاش عند أي مستوى: ولكنّي لست فلاناً، أنا مختلف. تجلب عليّ تلك الكلمة ليلة سيئة. يخرج ويعود، يريد توضيحاً: ما الذي سيجعلك مختلفاً. مراراً، يسكنني الرعب، تضيق خياراتي، لا بد من حسم المعركة مع الطلبة الشطار الكئيبين، فالطريق الآخر هو المعسكر. كان أبي يدفعني على طريقته، يستخدم معي سياسة حافة الهاوية. أنكب على الدراسة، يعرفون اسمي، أدخل في قائمة القلة التي لا تلقي التحية على أحد. أحافظ على مرحي وعلى الشعر، يتناقص أصدقائي. يدخل معلم القرآن، الشيخ زيد بن ثابت. كان سلفياً رائعاً، وكان معلّماً موهوباً. يلبس الثوب القصير، لحية سوداء، عمامة، صورة كلاسيكية لأي سلفي يحترم نفسه. يردد "درست عند ابن عثيمين ولدي توصيتان منه"، ما من سبب يجعلنا لا نصدق ذلك الادعاء. يصبح صديقاً لي. كان ذلك عندما طرح أسئلة حول تفسير سورة النور وكنت قد قرأت شرح السورة في إجازة الصيف الماضي من مرجعين سرقتهما من دار جدّي: زاد المسير في علم التفسير وشرح ابن كثير. قمت وشرحتُ، إلى أن قلتُ "يقول ابن كثير للعلماء حول هذه المسألة تفصيل ونزاعّ" هناك أوقفني بكفه، قام من على كرسيه مبتسماً، جاء إلى الكرسي الذي أجلس عليه، قال مازحاً: يقول ابن كثير للعلماء حول هذه المسألة تفصيل ونزاع. عاد إلى مكانه وأعطانا وجهه: لا تنشغلوا بالتعقيدات، تكفيكم الكلمة ومعناها للمنهج.

مع الأيام سأدخل في نقاش طويل مع الشيخ زيد، وكان له مريدون وطلبة، حول الإخوان المـ///ــلمين وسنقوم هو وأنا بجمع شواهد لا تعدّ ولا تحصى حول "ضلال التنظيم". قبل الانتخابات البرلمانية يزودني بملزمة: سبعون مفسدة من مفاسد الديموقراطية. في سيارته، تماماً ونحن في الحصب، أطرح عليه سؤال: ولكن كيف سنختار الحاكم؟ يرد بهدوء: بتوصية من النبي، كما حدث مع أبي بكر، بتوصية من خليفته كمثل أبي بكر وعمر، باختيار أهل الحل والعقد كما جرى مع عثمان. ثم يسكت. أسأله: والآن، ماذا سنفعل؟ يحرك رأسه يمنة ويسرة، ينظر إلى مسجدٍ على جانب الطريق، أنظر معه. كان مسجداً رائعاً. وكان الشيخ معلماً موهوباً. سأله شمس الدين، وكان طالباً مثقفاً وصوفياً، عن حكم النظر إلى المردان فارتبك الشيخ زيد، ألقى شمس الدين ببصره إلى تلميذ وسيم وابتسم بلؤم، ثم انفجر الفصل ضحكاً. ولكن الشيخ زيد سرعان ما احتوى الموقف. كان الموقف رائعاً أيضاً. رفع شمس صوته مرّة أخرى، قال إن النبي كان يضع المردان خلف ظهره، تجاهله المعلم هذه المرة، سمعنا صوتاً غليظاً من آخر الفصل "اهدا يا شمس". هدأ شمس. في الاستراحة تحدثت مع شمس الدين حول مسائل متعلقة بالعقيدة ولمّا لاحظ معرفتي بأمور كثيرة عرض عليّ تقديمي إلى والده، وكان شيخاً صوفياً. تحدثت بحماس مع والده ذلك النهار، تركني أتحدث ثم أوقفني عند نقطة ما وقال بصوت بالغ الدفء: حول هذه النقطة سندندن. بقي يتحدث وأنا أتأمل الفعل"يدندن"، وجدته فعلاً ثميناً ومهاباً ويغني عن كل النقاش، حتى إني فكرت في أمر غاية الخطورة: أن أبحث للفعل يدندن عن موضع في قصتي دوحة الأمل، وأعيد إرسالها إلى صحيفة الثقافية. وحتى الآن لا أدري، ولن أدري قط، عمّا تحدث ذلك المتصوف الجليل.

تبادل المعلمون على المسرح، كانوا مذهلين ومسيّسين، باستثناء معلم الرياضيات. كان المعلم عبد الخبير سيف وحشاً في مادته، وكنا نبحث عن مسائل مركبة في التفاضل ونقدمها له لغاية وحيدة لا علاقة لها بالعلم. ينطلق عبد الخبير في الحل، يحدث نفسه، لا يكترث بمن خلفه، أنت تسمع، أنت لا تسمع، هذه شؤونك الخاصة، عبد الخبير منشغل، يبتهل، يحل مسائله وعليك أن تحل مشاكلك مع نفسك. كان أحد أعظم الرجال الذي ولدوا في الجبل. عبد الخبير يصلي داخل الرياضيات، لم ألتقِ برياضيين كثيرين ومع ذلك فبمقدوري التأكيد على أن عبد الخبير كان نادراً واستثنائياً وكانت الرياضيات بالنسبة له لوناً من ألوان الدين. ينطلق في حل المسألة المقدمة، عند نقطة معينة يترك السبورة ثم يتراجع خطوات إلى الخلف، يأخذ مكاناً بين صفوف الكراسي، يشعل سيجارة وينظر إلى المسألة عن بعد، يتأملها، يلقي السيجارة على الأرض، يدعسها بوحشية، ثم يعود إلى السبورة ويواصل الكتابة. كانت تلك اللحظات، بالنسبة لنا، هي زبدة الرياضيات وأجمل ما في العلم، حين يتراجع عبد الخبير إلى الوراء لكي ينظر إلى المسألة. لم يكن يكترث للسياسة وكان يقول إنها عملية سطحية ليست بحاجة إلى عقل كبير، بخلاف زملائه الآخرين ..

يتبع ..

م.غ.

مروان الغفوري | كاتب يمني

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى