مجتمع الميم

متاهة الهوية بين الأدوار الثنائية – ترانسات Transat


 

كتبــ/ــت: كاميليا يسري

 

أتصور أنني لو عرفت سبب فشل معظم مواعداتي لغمرني ارتياح من نوع ما. أنا لست بالجرأة الكافية لطرح السؤال، أو الآخرين هم من يفتقدون جرأة المواجهة. حين واعدت الرجال المغايرين والمتفقين مع جندرهم سابقاً كانت مشكلتهم تتمثل في أني لست “أنثوية كفاية”، لا استخدم مساحيق التجميل كفاية أو أزيل شعر جسدي أو اتغنج بما فيه الكفاية، لست مثل الآخريات، وكان وجه المقارنة واضحاً. لطالما شعرت بأني لست بما يكفي من الجمال لأن الجمال ليس له وجه آخر غير الأنوثة. “لا يهم حين يكون الرجل ليس جميلاً كفاية إن امتلك المال أو حس الدعابة” و”الراجل مايعيبوش إلا جيبه” هي الجمل التي لطالما ترددت على مسامعي لسنوات.

حين أعلنت عن ميولي كمثلية حلقت شعري بالكامل وكففت عن وضع مساحيق التجميل التي لم اعرف بداية كيف استخدمها من الأساس. ظننت بحلاقتي لشعري أنتي اتخلص من كوني مرغوبة من الرجال بشكل نهائي، من آخر قيد يربطني بالتعبير عن نفسي بشكل أنثوي لجذب الرجال. وعلى الناحية الأخرى ظننت أن معايير الجمال المنمطة جندرياً لن تكون ذات قيمة عند مواعدة الأشخاص من نفس جنسك.

الأشخاص على تندر ليسوا بفجاجة الرجال على جرايندر. لن يفتتح أحدهم محادثته بسؤال إن كنت “توب أو بوتوم”. لكن الإجابة ضمنياً تظل مهمة حتى بين المثليات وهو ما لم أعرفه مسبقاً نظراً لكوني جديدة على الأمر كله. في علاقاتي السابقة مع الرجال المغايرين لم يتوقع مني إلا أن أترك لهم زمام الأمور. حتى حين أخذت أنا زمام الأمور اُعتبر الأمر مجرد “فيتش”، امرأة تضاجع رجلاً على سبيل الإهانة وأنا لم أعتبر الأمر إهانة ولم اعتبر نفسي مسيطرة أو “فيمدوم”. طلبت من حبيب سابق أن يستخدم معي ضمير المذكر ولكنه اعتبر الأمر مجرد لعبة جنسية أو “رول بلاي”، شئ غير حقيقي.
الحوار عن الميول الجنسية لم يظهر للعلن إلا متأخراً فاستغرقني الأمر ثلاثة وعشرين عاماً من عمري كي أعرف نفسي كمثلية أخيراً، قبل أن يقع على عاتقي لاحقاً إعادة تعريف وفهم جندري خارج الإطر التي لطالما قيدتني. جسدي زج بي في النمطية المعيارية دون أن يكون لي رأي شخصي فيما أكون عليه فعلاً. أنا لم أشعر بنفسي كامرأة وأيضاً حين أتصور نفسي كرجل بجسد مكتمل الذكورة أحياناً تبدو الفكرة منفرة. بداخلي شعرت أنني قد أكون كل شيء أو لا شيء من الأساس. أنا لم أكره جسدي كما هو عليه لكني أردت ألا يعني شيئاً للآخرين، ألا يكون مجرد قالب ضيق لمشاعري التي أمكنها أن ترتحل في اتجاهات مختلفة.

على الإنترنت لاحظت أن غالبية الشريكات أو “الكابلز” من المثليات لم يتشابهن في طباعهن أو مظهرهن. تتخذ إحداهن طابعاً رجولياً أكثر والأخرى تتخذ طابعاً أنثوياً أكثر. وعلى تطبيقات المواعدة تصنف المثليات ومزدوجات الميول بشكل أساسي ل”فيم” و”بوتش”، أو “توب” و”بوتوم”. المعادلة سارت بهذا الشكل: إن أردت مواعدة “فيم” فعلي اتخاذ دور البوتش والعكس صحيح. وووجدت نفسي اتسائل عن الشق الذي أصنف به أو الشق الذي انجذب له من الأساس. ماذا إن كنت أصنف نفسي كـــ”بوتش” مثلاً وانجذبت أكثر لمن صنفن أنفسهم التصنيف نفسه؟ هل تصبح المعادلة ممكنة؟
بعدما تخليت عن المحاولات المستمية للالتزام بدور ومظهر أنثوي حاولت أن أكون أكثر رجولية أو “ماسكلن” في تعبيري الجندري. أن اكتفي بارتداء القمصان الواسعة وألا اسمح لشعري أن يتجاوز طول معين. أن اتخذ زمام العلاقة على الصعيد العاطفي والجنسي ولكني لم أنجح في هذا الدور أيضاً. وعلى الرغم من كوني لست “رجولية بما فيه الكفاية” إلا أن إحداهن صارحتني في موعد عاطفي أني لست أيضاً أنثوية أو “فيمنن” بما يكفي بالنسبة لها، مثل تلك الفتاة الأخرى التي أثارت إعجابها.

لم تختلف المعيارية الجندرية بين المثليات عما هي عليه بين المغايرين/ات وهو ما لم أفهمه. التنميط الجندري سببه ضغط مجتمعي من الأساس يحركه ويتحكم به مجموعة من الرجال المغايرين المنسجمين مع جندرهم حيث يرون اتخاذ الرجال لمظهر أو دور أنثوي إهانة وانحطاط. ومحاولة الإناث للتشبه بالرجال محاولة لمزاحمتهم وسرقة دورهم في التحكم بالأسرة والمجتمع إلخ. فيدعون لأهمية التزام كل جنس بدوره ويشددون على ترهيب الجنسين من أي انقلاب، حتى لو تطلب الأمر استخدام نص ديني يوعد بالجحيم لمن يخالف دوره المحدد له سلفاً. فما الذي يدفع أقلية هي بالأساس مرفوضة من هذا المجتمع لإعادة إنتاج الأدوار نفسها بين شخصين من نفس الجنس؟ بل والامتعاض ممن يخالفون تلك الأدوار المختلقة؟
الفتاة نفسها التي رفضتني لأني لست أنثوية أو “فيمنن” كفاية سألتني عن السبب الذي قد يدفع “بوتش” مثلي لمواعدة “بوتش” أخرى من الأساس! حيث أنها رأت الأمر برمته غريباً. استغربت سؤالها واعتبرته فكر عتيق حيث ظننت أننا تجاوزنا بالفعل تنميطات مشابهة، لكنها في النهاية ليست الوحيدة. أنا لم أرى من قبل سواء على وسائل التواصل الاجتماعي أو في أي من الأعمال الفنية والدرامية تمثيل لشخص لا يلتزم بالمعيارية الجندرية، وفي الأعمال الكويرية يجب أن يلتزم بالمعيارية الخاصة بثنائية “فيم” “بوتش” أو “توب” “بوتوم”. إن كان الثنائي يمثل امرأتين أنثويتين فهذا يجذب الجماهير من الرجال المغايرين. وإن كانت ثنائية أنثوية /رجولية فهو يكون أقل صدمة على الجماهير التي مازالت تحاول الانتقال من نمطية العلاقات المغايرة للعلاقات المثلية فيكون الانتقال أقل وطأة. أتخيل لو مثل عمل فني لشخصين غير ملتزمين بأي من النمطيات السابقة من الأساس أو امرأتين تميلان للتمثيل الذكوري، الأمر بأكمله سيكون صادماً جداً وغير مستستاغ. من الأسهل للمثليات في علاقات “بوتش”-“بوتش” أو أولئك الذين يصنفون أنفسهم كأشخاص مرني الهوية الجندرية أن يروا أنفسهم في العلاقات المثلية بين الرجال في غياب التمثيل الملائم.

حتى وقت قريب ظننت أنني إن لم أكن امرأة فينبغي علي أن أكون رجل. أحد اصدقائي الرجال عابر جندرياً ويتفهم أصدقائنا تماماً موقعه بينهم كرجل لأن جسده ليس أنثوياً لالتزامه بهرمونات التستيسترون وخضوعه لجراحة علوية والتزامه بضمائر المذكر حصراً والملابس المخصصة للرجال. أنا في المقابل حين أطالبهم بالتناوب بين ضمائر المذكر والمؤنث يغيب عنهم فهم الجانب المذكر بي، بصدر أنثوي بارز وصوت “مسرسع” وميل لارتداء الفساتين أحياناً. أحياناً أتمنى لو أن جسدي كان بلا أي ملامح كي يجنبني أي تصنفيات ولكن حتى عند هذا الحد سيسارع الآخرون لالتقاط أي ملمح أنثوي أو ذكري بي لإعادة تصنيفي وكأن اللعنة لا تنتهي. مثل الدمى التي لا تمتلك أعضائاً تناسلية ولكن يزج بها الآخرون في تصنيفات معيارية حسب تفاصيل بلا معنى مثل طول الرموش والشعر.

مازالت أحاول إعادة تعريف نفسي. أشعر بداخلي بميل يتناوب ما بين الهويتين، ميل للذكورة وميل للأنوثة وأعجز عن الالتزام أو الاكتفاء بصرامة بأحد الجانبين حصراً. أحياناً أتصور أنني لو اكتفيت بتعريف نفسي كرجل عابر جنسياً سيكون الأمر مستساغاً أكثر، سيكلف معاناة جمة ولكنه قد يصل لمكان ما حيث يمكن للآخرين تقبلي وسيكون أكثر قابلية للتفسير من قبلي. وعلى الأقل سأرى نفسي في نماذج عديدة ليست ضخمة ولكنها معقولة في مقابل تمثيل مرني الهوية الجندرية المهمش بالكامل. حتى الآن مازلت لا أراني في أي أعمال فنية. لا أعرف موضعي في علاقاتي العاطفية والجنسية. ما الذي ينبغي أن أقدمه وما الذي ينبغي أن انتظره؟ مع من ينبغي أن أكون؟ حين واعدت أشخاصاً آخرين لا ينتمو/ين للثنائية الجندرية شعرت بارتياح جم، ارتياح من التصنيف المستمر ومحاولة الامتثال للقالب، حيث يمكن لشعوري وتعبيري أن يتراوح بين الذكورة والأنوثة دون الانتماء لأي شق. ولكنه لا يقابل بأي فهم أو تقدير من الآخرين حتى من أولئك الذين يصنفون أنفسهم كجزء من أقلية الميم عين. حين مشيت في الشارع ممسكة بيد صديقي غير الملتزم بالثنائية الجندرية تعالت أصوات في الشارع مطالبة بمعرفة “من الرجل ومن المرأة” بيننا.

أحياناً يلقي المارة في الطرق بكلمة “خول” عليّ. “خول” لكن ليس كفاية في أعين الرجال للرغبة بي أوتحويلي لــ”فيتش”. و”خول” أكثر من اللازم بالنسبة للنساء. لكن حتى لو رآني الآخرين كشخص غريب وغير قابل للتعريف مازلت بداخلي أعرف بهجة أن تحظى بمكان في العالمين. العالم أكثر فساحة بمفاهيم شاسعة واعرف أنه احتوى وسيحتوي آخرين غير قابلين للتأطير كما احتوى من قبلي “ذوي الروحين”. بالطبع الطريق مازال طويل لكني مازلت اتفائل باللفتات الصغيرة.

في مسلسلي الكويري المفضل “feel good” تشتكي بطلة المسلسل من كونها ليست رجل كفاية لحبيبتها، كيف أنها تحاول تجنب الألوان الزاهية كي لا تصطدم حبيبتها بحقيقة أنها امرأة “بيولوجياً” وكيف أن ذلك يشعرها بانزعاج جندري مضاعف لما تشعر به. في مسلسل” sex education” يتم تقديم شخصية حرة الجندر للمرة الأولى في الموسم الثالث. ينجذب أحد أبطال المسلسل لهذه الشخصية ظناً منه بأنها فتاة ليتضح فيما بعد أنه/ا يـ/تستخدم ضمائر “they/them” ويــ/ـتعرف نفسه/ا على أنه/ا حر/ة الجندر مما يضع البطل في صراع لإعادة تعريف هويته.
وكانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها النقاش فيما يخص طبيعة علاقات الأشخاص أحرار الجندر مفتوحاً. ظاهرياً حين كنت ارتبط برجال كان يتم تصنيفي على أني مغاير/ة، لكن حتى قبل إعلاني عن مثليتي لم أشعر أبداً بكوني مغاير/ة، أياً كان جنس من واعدتهم/ن، حتى لو بدت الأمور نمطية ظاهرياً لكنها لم تتخذ الطابع نفسه ضمنياً فيما يتعلق بطبيعة العلاقة. اعترف لنفسي أحياناً بأني لا أعرف على وجه التحديد إن كان الجزء الأسوأ من علاقتي بالرجال كان متعلقاً بكوني لا أنجذب لهم أم بطبيعة حصرهم لي بالهوية الأنثوية أو التعامل مع هويتي الذكورية ك”فيتش” وما يتسبب به كلا الأمرين من تضاعف انزعاجي الجندري.

ما أعرفه الآن على وجه التحديد هو أن الهوية بأكملها استكشاف، وأحياناً يطول الطريق. وأعرف أن هويتي تحديداً لا تعرف التأطير. وأني كشخص حر الهوية الجندرية لا أدين لأحدهم بالتطابق مع المعيارية بأي شكل من أشكالها. “البوتش” ليس النموذج الوحيد الذي يمثل هوية جندرية حرة و”الفيم” لا يعني التطابق مع ما سجل عند الميلاد. وما بين تمثيلين متقابلين لا اندمج مع أيهما أعرف أن لدي رفاهية امتلاك الجانبين وما بينهما بداخلي وفي تعبيري الظاهري عن نفسي. وأن الجمال ليس دائماً أنثوي وليس دائماً معياري

كاميليا يسري: كاتبـ/ــة لا ثنائيـ/ـة الجندر

العمل الفني للفنان/ة العابر/ة: ملوخية



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى