كتّاب

مالقيتوش إلا بيت ربنا يا كفرة يا ولاد الكلب:…


مالقيتوش إلا بيت ربنا يا كفرة يا ولاد الكلب:
الصيف فى النصف الأول من الستينيات فى بلدنا الباجور منوفية، الحر والهدوء هما سيدا الموقف، فالرجال فى أعمالهم والسيدات تنهمك فى اعمال بيوتهن، ولا يقطع الصمت إلا بائع ينادى: “صاحى يا سمك” أو سيدة تنادى:”ياقلل الشربات يا قشطة يا جوافة” أو “البطاطس بخمسة أبيض”، نتجمع ربما قبل شروق الشمس فى الوسعاية التى يتوسطها “جامع سيدى صلاح”، يقف أحدنا فى الوسعاية ويضع أصبعيه في فمه ويطلق صفيرا عاليا، فنهرع إليه ثم نتداول فيما نبدأ بفعله، قد يكون الذهاب لنخلات عالية نعرفها “لنشطح” ونلتقط ما سقط من بلحها الكبير طول الليل، إذ يصعب علينا صعودها كما لا يستطيع الطوب الذى نقذفه بمهارة أن يصل إلى ارتفاعها الشاهق، ونعقبها بالذهاب إلى الموقف، وحيث العربات الخارجة من البلد أو الداخلة إليها، فقد نجد بعض عربات الكارو التى تحمل بلحا: أحمر أو أمهات أو عنب أو جوافة، حيث يمكننا أن نخطف بعض ثمارها قبل أن ينتبه إلينا أحد، أو ننطلق إلى الحقول لنتسلق أشجار التوت على رؤوس الحقول ونأكل ثمارها الطازجة من على الغصون مباشرة، وقد نختم نصف نهارنا بالذهاب للترعة والقفز فى الماء من على الكوبرى.
وفى أحد الأيام كان قد مر النصف الأول من اليوم ونحن نتساءل إلى أين نذهب؟، والحرارة شديدة توشك أن تشعل النار فى الحطب الجاف، وكنا ثلاثة أصدقاء فى نحو الثالثة أو الرابعة الابتدائى، فاقترح أحدنا أن نذهب لنستحم فى جامع سيدى صلاح، وتهللنا للاقتراح الذى سوف يطفئ النار المستعرة فى أجسادنا الغضة، ودخلنا الجامع وهو يتوسط بيوتنا على أى حال، كان الجامع يخلو تماما من الناس والمصلين فى هذا الوقت بين صلاتى الظهر والعصر، والحقيقة أن الاستحمام فى الجامع لم يكن استحماما حقيقيا كما يعرفه اولادنا اليوم، وإنما هو مجرد أن ندخل إلى الميضة ونخلع الجلباب أو البيجامة والفانلة واللباس والشبشب، ونتركهم على أرضية الميضة ثم ندخل عراة إلى “بيت الأدب” ونفتح حنفية المياة على “البقوش” الفخار تحتها ونتناول “الكوز” الذى “يستنجى” به المصلون ونصب على رؤوسنا نحو عشرة أو عشرين كوز مياة وبعدها نخرج لنرتدى ملابسنا وقد انتعشنا بعد أن بردت المياة أجسادنا.
وبينما نتحمم ونستمتع بالماء البارد ينصب على أجسادنا، يشجعنا خلو الجامع تماما على ان نتحدث عبر بيوت الأدب بصوت عال: تيجى ياد نروح الترعة.. لأ تيجى نصطاد سمك .. تيجى نروح السكة الحديد
هنا خطر لى خاطر: ماذا لو أخذت ملابس رفيقاى وخرجت، وتركتهما عاريين فى بيت الأدب؟ وبسرعة البرق خرجت ولبست ملابسي وأخذت ملابس رفيقاى فى حضنى وخرجت من الجامع كله.. مرت دقيقتين أو ثلاث وشعر رفيقاى بصمتى تماما فخرج أحدهما يرتدى ملابسه فلم يجدها ولم يجدنى، ففتح الباب على رفيقنا الثالث ليقول له: “كمال” مش موجود والهدوم مش موجودة.. وبينما ينظر الولدين يمنة ويسرة بحثا عنى، فوجئا بصوت لعم “خليل الديب” أحد جبارين درب سيدى صلاح فارع الطول وعريض المنكبين، والذى لا يتورع أن يصفع بكفه من ينطق أو يسلك سلوكا يراه متجاوزا للأدب، دخل عم خليل الديب الجامع وهو يهتف بصوته الجهورى: اللهم إنى أعوذ بك من سخطك ومن غضبك، وأعوذ بك من الهم والحزن ومن فتنة المحيا والممات .. وفى لحظة دخل الولدان العاريان أحد بيوت الأدب وأغلقا بابه وقلباهما يكادا ينخلعا من الزعر، دخل عم خليل إلى الميضة وتأهب للوضوء ولكنه لاحظ أن أحد بيوت الأدب مقفول، فكح وتنحنح ليرد عليه القابع في بيت الأدب – فالنحنحة هى لغة التعارف في بيت الأدب إذ يكره إلقاء تحية تتضمن لفظ الجلالة فى مكان الخبائث- ولكن الرجل لم يتلق ردا من خلف الباب المقفول، فتقدم إليه ووضع عليه يده وفتحه بهدوء، ففوجئ بولدين صبيين عاريين تماما، فصاح بكل قوته: “يا نهار إسود مالقيتوش إلا بيت ربنا تعملوا فيه الفاحشة يا كفرة ياولاد الكلب”، وانحنى ليتناول بيديه “قبقابين” من القباقيب الكثيرة التى التى تملأ أرضية الميضة، وانهال على رأسا وظهرا الولدين ضربا بالقبقاب، فانفلت الولدين من تحت ذراعة وجريا بأقصي سرعة، إلى داخل الجامع ليخرجا من بابه، ولكنهم يتذكرا أنهم عاريين فيعودا إلى داخل الجامع، ويقابلهما عم خليل بضرباته الهائلة، وأنا أنظر سعيدا إلى مشهدهم الفريد كعصفورين محبوسين داخل القفص يتلقون الضربات
واقتربت من باب الجامع ودفعت لهما ملابسهما، فتناولاها وقفزا خارجين إلى الوسعاية وهما عاريين تماما يرتدون ملابسهم أمام الناس وعلى أى حال فقد كان هذا أرحم من قباقيب عم خليل
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى