ليلة سيدى صلاح (3 من 3)
بعد العصر تكون المنصة التى سيعتليها المنشد وفرقته قد أعدت غالبا كانت الفرقة تتكون من ناياتى ورقاق وكمانجاتى ويعتبر الناى لأنغامه الحزينة والرق لضبط الإيقاع أهم آلات فرق الانشاد، وحصير الذاكرين قد فرش، واستعد الجميع لإشارة البدء من أحد الشيوخ الكبار، يدعو الذاكرين للوقوف ويعطى إشارة البدء للمنشد، ويبدأ فى التوقيع تصفيقا بيديه، تصفيقا هادئا وهو يتجه بجذعه لأقصى اليمين قائلا: الله، ثم اليسار: الله، لدقائق معقولة حتى يكتمل عدد معقول من الذاكرين فى صفين متقابلين، يدورون بجذعهم الأعلى فقط لأقصي اليمين وأقصي اليسار، طبعا هناك حركات مختلفة للذكر عند طرق الصوفية المختلفة كالقادرية والطحاوية، ولكنى اتحدث عن اشهرهم، وبينما تعزف الفرقة لتسخين الناس وينشد المنشد اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم، والرقص الدينى قديم قدم الإنسان نفسه يدور العابد فيه مقلدا حركة الكون حتى يتوحد معه ويذوب فيه، والعلاقة بين المنشد والذاكرين علاقة معقده فالمفروض بالتفاهم مع فرقته أن يأخذهم من حالة الوعى الكامل والحركة الهادئة البطيئة الى حالة الانجذاب الكامل والحركة شديدة العنف والسرعة ولكن بحساب دقيق، وقد يكون بعض المنشدين من القسوة على الذاكرين لدرجة ان يرسل له بعض كبار الدرب ليرفق بهم ويرحمهم
وفى هذه الأثناء تكون جموع النساء الراغبات فى حضور الليلة قد اجتمعن فوق سطحنا والأسطح المطلة على الوسعاية، ويجلس كبار رجال الدرب على دكتين فى مكان هادئ يشرف على الوسعاية كلها، وينتدب عدد من شباب الدرب انفسهم لمتابعة حلقة الذكر والمرور فى الوسعاية لمنع أى مشكلة: شاب يتحرش بفتاة مثلا، أو خناقة بين بائع وشارى أو أى مايكدر صفو الليلة ووصولها إلى بر الأمان
وغالبا مايبدأ المنشد بالانشاد بالعامية لينتبه الجميع:
حبيبى أصل الجمال هو الجمال كله
حتى القمر يوم ظهوره كان نوره من ضله
والنجم لما هوى عاشق وبيميل له
ثم يعرج على شكوى الزمان بالعامية أيضا، فهى تسرع بالدموع إلى عيون النساء وتسرع بالأسى إلى قلوب الرجال:
يا دنيا مالك كده حالك صبح مايل
زمن الهنا راح وجانا زمن مايل
وصبحت حيران ونفسى اعدل المايل
وصرفت ع الطب كل داء وليه دوا
جانى الطبيب يكشف على المبتلى
كشف عليا الطبيب وحكيتله عن حالى
كتب والله حظك مال وايه يعمل الطب فى اللى حظهم مايل
وبينما يتوقف الذكر استعدادا لصلاة المغرب تكون ماكينة النور قد اشتغلت لتضئ عشرات اللمبات التى تنير الوسعاية كلها
وبعد المغرب يتسارع الإيقاع ويحمى الذكر وينتقل المنشد إلى مدح الرسول، ومن المنشدين من يكون خفيف البضاعة فيسهب فى الحديث عن طرائف قصص الرسول مع زوجاته ومعجزاته والأشجار التى سجدت له والسحابات التى ظللته، إنما لو كان المنشد واعيا دارسا فإنه يتلوا أبيات من القصائد الجميلة كقصيدة بانت سعاد لكعب بن زهير
أو ينشد: كل القلوب إلى الحبيب تميل ومعى بهذا شاهد ودليل
أما الدليل إذا ذكرت محمد صارت دموع العارفين تسيل
ثم يعرج على بردة المديح، وينشد للبوصيرى:
لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل .. ولا أرقت لذكر البان والعلم
وكيف تنكر حبا بعدما شهدت .. به عليك عدول الدمع والسقم
نبينا الآمرُ الناهي فلا أحــــدٌ .. أبرَّ في قولِ لا منه ولا نعــــمِ
هو الحبيب الذي ترجى شفاعـته.. لكل هولٍ من الأهوال مقتحـــمِ
دعا إلى الله فالمستمسكون بــه .. مستمسكون بحبلٍ غير منفصـــمِ
وكلهم من رسول الله ملتمـــسٌ ..غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ
وينتقل إلى احمد شوقى:
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى .. وفعلت مالا تفعل الانواء
وإذا عفوت فقادرا ومقدرا .. لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فانت أم أو أب .. هذان فى الدنيا هما الرحماء
وتصل حلقة الذكر إلى الزروة، وتتسارع حركة الدوران، وكان يحلو لنا تأمل الراقصين فى ملامحهم اثناء الدوران وفجأة تنطلق صيحة مريد الى عنان السماء: ياسيدى صلاح المدد، ومنهم من يستطيع الدوران بجذعه دورة كاملة، ومنهم من يذوب فى حركة الرقص وينفصل بكامل كيانه عن العالم من حوله وينجذب تماما حتى يسقط على الأرض مستمرا فى الحركة منشدا الله الله الله، فيسرع له بعض الشباب ليؤذنوا فى أذنه، وكان من الممكن ان تجد بعض الشيخات كبيرات السن يصنعن لأنفسهن صفا للذكر خلف الرجال أو فوق أحد الأسطح، وينزلن الى حلقة الذكر، والذكر على أى حال لا ينبغى أن ينزله إلا الأقوياء والأصحاء فهو مجهد إلى أقصى درجة الى درجة أن يمنع الشباب المسؤل عن حلقة الذكر بعض كبار السن أو المرضى، أو يقفوا بالقرب منهم ليتابعوهم حتى لا يندمجوا تماما فى الذكر فيصيبهم مكروه.
ومن المنشدين من يكون من العمق لينشد من أشعار الحلاج وابن عربى وينشد لابن الفارض:
ياحسرتى ضاع الزمان ولم أفز منكم أهيل مودتى بلقاء
يالائمى فى حب من من أجله قد جد بى وجدى وعز عزائى
فهم عيازى حيث لم تغن الرقى وهموا ملاذى إن عدت أعدائى
وكفى غراما أن اعيش متيما شوقى أمامى والقضاء ورائى
أو ينشد للحلاج:
والله ماغربت شمس ولا طلعت إلا وحبك مقرون بأنفاسى
ولو قدرت على الغتيان جئتكم مشيا على الوجه أو سعيا على الراس
مالى وللناس كم يلحوننى سفها دينى لنفسي ودين الناس للناس
ولأن محبة آل البيت راسخة فى قلوب المسلمين المصريين فلابد أن يعرج المنشد على مديح الحسين:
أفاطم لو خلت الحسين مجندلا وقد مات عطشانا بشط فرات
إذا للطمت الخد فاطم عنده واجريت دمع العين فى الوجنات
إلى الله أشكو لوعة عند ذكرهم سقتنى بكأس الثكل والفضعات
ولابد أيضا من مديح السيدة زينب:
إن جئت زائرها ترجو كرامتها عند المقام بإذن الله تلقاها
سلم عليها سلام الــــود محتسبا تلقـــــى الشفاعة من جــدها طه
فإنها زينـــب والام فـــــاطمة بنت النبى وفى الفردوس سكناها
إني أتيت لها في قرب روضتها أستنشق ألعطرمن جنات مثواها
وطبعا لا يفوت المنشد أن ينشد عن مناقب السادة الصوفية الكبار: سيدى أحمد البدوى وابو الحسن الشاذلى وابراهيم الدسوقى وعبد الرحيم القنائى وغيرهم
وتستمر حلقة الذكر حتى إذا تجاوزنا منتصف الليل، واستفرغ كل راغب فى الذكر رغبته وقدرته وتكون النفوس قد أصبحت لطيفة ورائقة تجد الفرقة وهى تعزف وتنشد لحن بليغ حمدى والذكر مستمر وان كان بهدوء: جانا الهوى جانا ورمانا الهوى رمانا، أو تعزف لحن الشيخ زكريا أحمد: ياقلبى آه الحب وراه أشجان وألام واندم واتوب وعلى المكتوب مايفيدش ندم
وبعدها يتوقف الذكر ويقعد الذاكرين على الحصير المفروش ويستمر العزف الهادئ للفرقة وينتقل المنشد إلى المواويل الهادئة وإلى سيرة الرسول والصحابة وحكايات التاريخ، ويتوقف بين الفينة والأخرى ليقول نكتة ويروى طرفة،وتعلو الابتسامات بينما تدور عليهم اكواب الشاى وفناجين القهوة، ويصل المنشد إلى الختام فتصله نقوط وأوراق يقرأ منها: الفاتحة للحاج عبد المنعم قُطر وربنا يبارك له فى أولاده، الفاتحة لعم حامد أفندى مغيث وربنا يباركل له فى صلاح ابنه، ويختم بالدعاء لسيدى صلاح وأهل الدرب جميعا، وبينما يتهيأ الناس لصلاة الفجرويلم أبو السعود حصيره، ويسلم المنشد وفرقته على من ظل ساهرا من رجال الدرب داعيا لهم بالصحة والستر وبعودة الأيام ويغادر المكان، وتأخذ المراجيح وعربات الباعة فى الرحيل ويعم الهدوء الوسعاية ولم يبق من الليلة الصاخبة إلى بقايا الأوراق والقراطيس وقشر اليوسفى والبرتقال والسودانى، أتساءل كيف صنع الناس البسطاء والفقراء كل هذا السحر؟
يسعد أوقاتكم
يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات
