كتّاب

ليلة سيدى صلاح: (1 من 3)…


ليلة سيدى صلاح: (1 من 3)
“الحقينى يا امه أنا باولد”
هكذا انطلقت صيحة أمى عالية ملتاعة، فى منتصف ليلة باردة من ليالى شتاء 1939، وبسرعة وضعت “ستى” جدتى لأبى على رأسها وكتفيها شالا ثقيلا وانطلقت فى شوارع القرية الباردة المظلمة الموحلة، لتأت بأم حنفى الداية .. وراحت الدقائق تمر بطيئة على أبى الذى راح يلف فى الصالة ويفتح الباب ليطمئن على أمى التى لم تنقطع تأوهاتها كان قد مر على زواجهم ثلاث سنوات رزق فيها ببطارية بنت، وسرعان ما عادت جدتى مع الداية وابنتها، وشهدت الدار صخبا شديدا يملأوه صراخ أمى، ووشيش أكثر من وابور جاز لتسخين المياة، وحركة هلعة لجدتى والفتاة بين غرفة أمى والحمام، ودوران قلق لأبى فى صالة الدار، ومرت نحو الساعة حتى توقف صراخ أمى، وأنطلقت “وأوأة” المولود الذى خرج للحياة توا، وانطلقت “ستى” من الغرفة بوجه ينطق بالفرحة والظفر لتواجه أبى وترفع سبابتها منتصبة وتوجهها إلى صدره قائلة: ولد ياحامد ولد، فيرفع حامد وجهه للسماء ويحمد الله ويخرج من محفظته جنيها كاملا للداية وحلاوة محترمة لبنتها، ويترك أمه لرعاية كنتها، ويدخل حجرته، ويفرش سجادته للصلاة، ويصلى لله ركعتى شكر على مولوده البكر ويختمها برفع يده داعيا: اللهم أكتب له حبك وخشيتك ومراضاتك وأرزقه طول العمر وحسن العمل وسعة الرزق وحب الناس وسعادة الدارين وبر الوالدين، واحفظه يا الله من كل شر ومكروه وسوء إنك أنت السميع المجيب”.. ونام مغتبطا راضيا
وقبل أن تشرق شمس اليوم التالى يدخل إلى غرفة أمى، فيرفع ضوء لمبة الجاز نمرة عشرة، لينتشر النور ويقبل رأسها قائلا: حمدالله على سلامتك يازينب، فترد بصوت واهن: مبروك ياحامد يتربى فى عزك، فيحمل المولود بين يديه ويرفع عن وجهه شاش أبيض رقيق ويرفعه بجوار الضوء ليتبين ملامحة الدقيقة ويبتسم ويقبل شفتيه وخده وجبينه ويناوله لأمى التى تبادره بالسؤال: حتسميه إيه ياحامد؟، فيجيب: والله يا زينب لسه مش عارف، فترد: صلاح ياحامد، وحياة التعب اللى شفته، فى الساعتين اللى غمضتهم شفت سيدى صلاح بوشه المنور وعمامته الخضراء وجلبابه الأخضر والسبحة إللى على صدره، واقف على روسنا وحاطط ايد على راسي وبالإيد التانية بيرقى المولود ويدعى له، فابتسم أبى وهز رأسه راضيا
وخرج ليلبس بدلته ويضع الطربوش على رأسه، وقبل أن يذهب للمدرسة التى يعمل بها مدرسا يمر على مكتب الصحة ليسجل مولود ذكر، ويبادره الموظف المختص وهو يفتح الدفتر: مبروك ياعم حامد افندى، حتسمى إيه؟ إكتب يا سيدى: صلاح الدين حامد احمد مغيث
أما سيدى صلاح فهو راعى الدرب الذى نعيش فيه وسمى باسمه “درب سيدى صلاح”، وأصبح اسم الدرب علما على عشرات الناس “أولاد درب سيدى صلاح” لا أعرف إذا كان علم الاجتماع فى جامعاتنا قد اهتم برابطة الدرب هذه، أم انه توقف عند القبيلة والعشيرة، كان مقام سيدى صلاح يشغل غرفة فى مقدمة مسجد فخم يحمل اسمه أيضا وأمامه وسعاية كبيرة كانت مثوى لعبنا ولهونا وخناقتنا طوال النهار والليل، وكان بيتنا أمامه مباشرة، وكان المسجد والوسعاية ترتفع عن ارض الشارع، أما عن أصل سيدى صلاح فلا أحد يملك الخبر اليقين فمن قائل أنه من أهل بيت الرسول الفاطميين، بدليل كسوة مقامه الأخضر وعمامته الخضراء، وقد هرب من تنكيل صلاح الدين بهم وقصد الوسعاية حين لم يكن حولها إلا الماء والطير، فبنى لنفسه غرفة وقصده الناس من كل حدب وصوب ليلتمسوا منه البركة، وراحوا يبنوا دورهم حوله ونحن أحفاد هؤلاء الناس، ومن قائل أنه من أحفاد صلاح الدين الأيوبى وصل إلى هذه البقعة بعد أن دالت دولته، ومن قائل أنه مسلمى الأندلس جاء إلى هنا بعد سقوط دولتهم على يد الفرنجة، وكان سكان الدرب جميعا يشعرون بانتماء لسيدى صلاح وكأنه جدهم البعيد فعلا
كانت لسيدى صلاح ليلة ذكر رائعة ننتظرها عاما بعد عام تقام فى الليلة الثالثة للعيد الكبير عيد الأضحى … والبقية غدا
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى