كتّاب

فى ذكرى أم كلثوم…


فى ذكرى أم كلثوم
بالدمع جودى يا عين
فى الأربعينيات من القرن الماضى كان “الشيخ زكريا أحمد” سيد الموسيقى المصرية بلا منازع وأكثر الموسيقيين المصريين إنتاجا وتنوعا،وثراءا: يلحن الأغانى والمواويل والموشحات والقصائد والمنولوجات والمسرحيات والصور الغنائية، وكان اعتزازه بنفسه يفوق الوصف، فكان يقول عن نفسه: ” إن الملك هو ملك الوقت، أما أنا فملك الزمان”
كان لدى الشيخ، وهو رجل شرقى على أى حال، ثلاث بنات وولد وحيد “يعقوب”، يعده ليكون سندهم من بعده، وفجأة وفى ربيع 1944، أصيب الفتى الوحيد بحمى قاتله لم تمهله سوى ساعات ومات، وبسرعة انتقلت أم كلثوم إلى بيت الشيخ زكريا لتطمئن على أستاذها الذى رعى خطاها حتى تحولت من مغنية ريفية “ببالطو وعقال” إلى سيدة الغناء العربى، وهى تدعو الله ألا يكون الشيخ قد فقد عقله من هول الكارثة.. غير أنها وجدت الرجل رابط الجأش مهندما ويشرف بثبات على الترتيبات التى تعقب الوفاة .. وعادت أم كلثوم فى العزاء مساءا لتجد الشيخ متماسكا يرد تعازيى المعزين بقوة وبشاشة، فتعجبت أم كلثوم وسألت بعض المقربين منها عن سر هذا التماسك الذى بدا عليه زكريا وقد فقد ولده الوحيد وفلذة كبده .. فقيل لها أن الشيخ يعانى حالة “إنكار” شديد.. فهول الكارثة يجعله غير مصدق موت ولده الوحيد، ويتعامل مع الأمر وكأنها مصاب أحد جيرانه، فسألت:وهل هناك خطورة على الرجل وهو على هذه الحال؟ فقيل لها نعم هناك خطورة كبيرة، فأى ضغط عصبى ونفسى يتعرض له الإنسان لابد أن يفرغه فى البكاء أو الصراخ أو تحطيم شئ أوماشابه.. ومالم يصدق الشيخ بالفجيعة ويبكى فسيظل فى حالة خطر التى قد تكون على هيئة قرار “لا إرادى” بالموت المفاجئ.. أو شلل .. أوإصابة أحد مراكز المخ، وبحثت أم كلثوم عن بيرم التونسى رفيق الشيخ وصفيه وسبق أن غنت لهما معا من الروائع “أنا فى انتظارك” و”حبيبى يسعد أوقاته” و “الآهات” .. ولم يكن بيرم فى القاهرة، كان فى زياره لأولاده فى الأسكندرية..اتصلت به أم كلثوم، ليقول لها: أنه سيأت بعد يومين، ولكن أم كلثوم رجته أن يعود للقاهرة حالا، وشرحت له ماعرفته من خطورة حالة الشيخ، وبعد ساعات كان بيرم يطرق بيت الشيخ، الذى استقبله هاشا مرحبا.. و البقية ف حياتك ياشيخ زكريا.. حياتك الباقية يابيرم .. قلبى معك يازكريا .. الحمد لله يابيرم.. وبعد أن شرب الرجلان الشاى والقهوة.. طلب بيرم من زكريا أن يناوله ورقه وقلم.. وكتب بيرم ليقرأ زكريا:
الأولة بالغرام والحب شبكونى
والتانية بالامتثال والصبر أمرونى
والتالتة من غير ميعاد راحم وفاتونى
ويقول زكريا ياحلاوتك يا بيرم … كمل .. فيكمل:
الأولة بالغرام والحب شبكونى.. بنظرة عين .. قادت لهيبى
والتانية بالامتثال والصبر أمرونى .. واجيبو منين .. واحتار طبيبى
والتالتة من غير ميعاد راحم وفاتونى .. قلولى فين .. سافر حبيبى
فيقول زكريا الله يابيرم .. ايدك تتلف ف حرير كمل… فيكمل:
سافر فى يوم ما واعدنى.. على الوصال وعاهدنى .. وكان وصاله وداع من بعد طول امتناع
وعندما قرأ الشيخ:
حطيت على القلب إيدى وانا باودع وحيدى .. واقول ياعين اسعفينى وابكى وبالدمع جودى
عندها ندت عن الشيخ آهه هائلة وارتمى على الأرض يخبطها بيديه ويبكى بحرقة ولوعة ويصرخ: “آه يا ابنى ياضنايا”
واكمل بيرم: من يوم ما سافر حبيبى .. وانا باداوى جروحى .. اتارى فى يوم وداعه ودعت عقلى وروحى
طالت عليا الليالى .. وانت ياروحى انت ..لاقلتلى فين مكانك.. ولا حترجعلى امتى؟؟
وظل بيرم مع زكريا الذى راح يلحن ويعزف وهو يبكى… وبعد يومين اتصل زكريا بأم كلثوم ليقول لها أنه وبيرم قد أعدا لها دورا رائعا من مقام نهاوند ” الأولة بالغرام”
ويوم غنتها أم كلثوم لأول مرة على المسرح، طلبت أم كلثوم من منظم قاعة الحفلة أن يجلس زكريا – الذى لم يكن يحضر أغانيه فى القاعة – أمامها فى أول صف .. وراحت تغنى بكل اللوعة ” اسعفينى ياعين وابكى وبالدمع جودى” والشيخ يبكى حتى مطلع الفجر .. رحم الله المبدعين العظماء …. ويسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى