الأقيال

فجعنا بنبأ وفاة الكاتب والروائي وليد دماج …….


فجعنا بنبأ وفاة الكاتب والروائي وليد دماج ….

مؤلف رواية «وقـــــــــــــــــــــــش»
التي تترك في القارئ أثراً عميقاً لمادتها التاريخية وموضوعها الدراماتيكي المتمثل في تاريخ الفرقة المطرّفية التي تم إبادتها في القرن السادس الهجري على يد سفاح ذلك الزمن (الإمام عبدالله بن حمزة)، لكن الرواية لا تحكي تاريخاً فقط، بل هي لتاريخ موازٍ أيضاً نراها تستحضر التاريخ إلى الحاضر، وتحيل الحاضر إلى التاريخ في فعل دائري لا ينتهي، وكما قال عنها كاتبها دماج «الرواية تكشف جملة من الأسباب الموضوعية لتكرار الحروب، خصوصاً الأهلية في اليمن، ومنها على سبيل المثال: الظلم والتمايز الاجتماعي، والفقر وشحة الموارد والاسترزاق من الحروب، والتجهيل».

ورواية وقش في مجملها «تحاول تتبع قصة فرقة المطرفية التي ظهرت في القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية، كما تظهر انتعاش الحياة الفكرية والعلمية في اليمن آنذاك، وتنوعها».

> رواية شاقة

يقول كاتبها دماج: «تم الاشتغال على الرواية وكتابتها خلال أكثر من خمسة عشر عاماً، بعد مجهود بحثي مضنٍ».

نعم هي رواية شاقة ومرهقة انطلاقاً من موضوعها المتركز في تاريخ الفرقة المطرفية منذ النشأة حتى الإبادة. وما حدث لهذه الفرقة كان واقعاً حقيقة يصعب معه التخييل والقفز على المعطى التاريخي. وفي المقابل لا مصادر جاهزة يمكن الاستناد إليها حيث كانت الإبادة مادية ومعنوية وصلت إلى مسح أي أثر يدل على هذه الفرقة التي انشقت عن الزيدية. وماذا جرى لها؟ وما هي الأفكار التي حملتها وجلبت عليها كل ذلك الاستعداء والقسوة والطمس. حتى إن الفرقة دخلت طي النسيان لسنوات عديدة إلا من شذرات متناثرة هنا وهناك. وأغلب ما كُتب عن هذه الفرقة جاء من خصومها فيما كتبوه لأنفسهم من تاريخ وسير. منها (سيرة الإمام عبدالله بن حمزة) وهي وجهة نظر من جانب واحد كتبها المنتصر كما يريد. وذلك ما يشكل ضغطا جوهريا على الكاتب الذي يحاول أن يبني من تلك الشذرات المتناثرة وما تبقى من آثار دارسة مسواة بالتراب، أحداثاً متماسكة ومقاربة لما جرى فعلاً. فكان الكاتب مؤرخاً وروائياً في آن. وهذه إشكالية أخرى تجعل الحد بين منجز روائي وكتاب تاريخي دقيقاً جداً. فالتاريخ هو الكتابة عمّا حدث أمّا الرواية التاريخية “فهي إعادة قراءة ما حدث، وإعادة كتابته بصورة أخرى أقرب إلى الحقيقة التاريخيّة، ومن هنا كان الإشكال بين الرواية والتاريخ، لأنّ الأديب يقرأ الأحداث بعينين: الأولى واقعية، والثانية تخييلية ويعيد كتابتها في بنية فنية”.

رواية (وقش) شاقة أيضاً على القارئ الذي يتقطع نفسه وهو يتابع الأحداث المبثوثة في صفحات الرواية البالغة 398. ويحاول ربطها ببعضها وتحليل ما استطاع منها وربطها بما يجري اليوم. وقد لا تجدي قراءة واحدة مع رواية مثل (وقش). لكن هذه المشقة لذيذة وممتعة، فيها مادة مشبعة ومحفزة ومستفزة، تجعلك تواصل مرثون الجري معها من الجملة الأولى إلى الكلمة الأخيرة.

> لغة الرواية

استخدم الروائي وليد دماج في (وقش) لغة قاموسية كلاسيكية، جزلة، فخمة، خالية من النحت الحديث. في استخدام ذكي جداً ينسجم مع لغة أبطال زمن الرواية الفكري والعلمي ويجعل القارئ يعيش ذلك الزمن لغة وأحداثاً وشخوصاً. وهذا مما يدل على سعة اطلاع الروائي دماج وتمكنه من زمام اللغة كأداة ضرورية لنسج الأحداث وتفاعلاتها دون شروخ أو انفصام بين ما يُقال والوسيلة التي يُقال بها.

> البناء الروائي الدائري

رواية وقش بُنيت على تكنيك التدوير المركب في كل شيء: الشخصيات والأحداث والأمكنة والزمن، وحتى الإسقاطات والإحالات والرمزيات.

حيث انطلق دماج من ضمير الأنا المتعدد الذي يحتشد فيه الرواة ويتناوبون السرد بأسلوب دائري لا يعتمد على نقطة معينة لها مسار بداية ووسط ونهاية وإنما دوران حول بؤرة النص المتمثلة في الفرقة المطرّفية التي تعرضت للإبادة الجماعية. كل راوٍ يحكي جزءاً من قصته ثم ينسحب ويظهر راوٍ آخر ويقول جزءاً من قصته وينسحب، ويأتي ثالث وينسحب ثم رابع وخامس وسادس وسابع… وأكثر من ذلك. ثم يعود السرد إلى الراوي الأولي ليحكي جزءاً من قصته ثم يتناوب الآخرون في حركة دائرية وقد يتناولون جميعاً حدثاً واحداً كل من وجهة نظره. والرواة هنا هم شخصيات حقيقية ومشهورة عاشت تلك الأحداث وذلك الزمن. عبدالله بن حمزة (السفاح)- أحمد بن سليمان؛ نشوان الحميري، جعفر بن عبد السلام – السلطان حاتم اليامي، وابنه علي – الصلحيون – رجال المطرفية وعلمائها وعالماتها – مطرف بن شهاب – مسلم اللحجي – البحيري – بن عليان – النهمي – الاسكافي – إسماعيل المزين – الشيخة رقية – الزهراء…. الخ.

ليس أولئك فحسب، بل الأمكنة أيضا كانت شخوصاً في الرواية تحكي قصتها أيضا – سناع – وقش – مدر- جامع الشمس…. وغيرها من الأمكنة التي كانت مسرحا للأحداث.

الزمن والتاريخ دائري أيضا في الرواية لا توجد له نقطة بداية تتصاعد منها الاحداث حتى النهاية هرميا أو أفيقا. وإنما يسير الزمن مع الرواة العديدين. يتقدم، ويتأخر، ويعود، ويدور في نفس النقطة حسب الراوي. وكذلك الأحداث.. مثلاً تتناولها الزهراء بطريقتها وحسب وجهة نظرها ثم يأتي جعفر بن عبد السلام أو عبدالله بن حمزة أو مسلم اللحجي أو نشوان…. الخ، ويتناولون نفس الحدث من وجهات نظر كل واحد منهم في عملية تدوير ترافق القارئ إلى آخر صفحة من الرواية.

والأمكنة دائرية أيضاً ومتعددة تمتد من صعناء إلى سناع إلى وقش وذيبين ومدر والجوف وصعدة وزبيد وذمار وصولاً إلى البصرة والقاهرة يلف فيها السرد من مكان إلى آخر بشكل دائري.

بدأت الرواية من على مشارف النهاية بوفاة السفاح (عبدالله بن حمزة) وهو يتوجع مسموماً على يد (الزهراء) إحدى الجواري المعتنقات لمذهب المطرفية والتي تم سبيها أثناء اجتياح هجرة وقش. الهجرة الرئيسة للفرقة المبادة. اصطفاها السفاح لنفسه لجمالها وذكائها، وقد كانت شيخة ضليعة في مذهب أهل العدل والتوحيد (المطرفية).
ومن ثم يتوالى السرد على لسان الرواة بالتناوب وبدون تقديم من راوٍ عام.

لكن لماذا كل هذا التدوير؟
أعتقد أن الكاتب تعمد ذلك بذكاء. كرمزية مخفية تريد أن تقول لنا: إن التاريخ والأحداث والأفكار والوعي بالأشياء يدور في حلقة مفرغة من ذلك الزمان قبل ألف عام إلى الآن. التاريخ يعيد نفسه بأشكال مختلفة في تلك الدائرة الكبيرة “على شكل مهزلة أو على شكل مأساة” كما قال ماركس.

وما حدث للمطرفية يتكرر كل خمسين عاماً تقريباً والأفكار هي.. هي، والحجج هي.. هي، والعنصرية والتمييز الطبقي والاستباحة والتكفير هو نفس ما نراه اليوم.. تغيرت الأسماء والمسميات وبقيت الدائرة والدوران.

أنا شخصياً استمتعت كثيراً بقراءة هذه الرواية (وقش) لكن ذلك لا يمنعني أن أقول بعض الملاحظات الهامشية من وجهة نظري المتواضعة:

منها أن تعدد الرواة المتناوبين على فترات متباعدة؛ أحدث فجوات تجعل القارئ لا يمسك جدياً بخيوط الرواية وتسلسل الأحداث فيها. لأنه ما إن يكوّن صورة عن شخصية في الرواية حتى تظهر شخصية أخرى وما إن يمسك بالثانية حتى تأتي ثالثة أو رابعة أو خامسة أو سادسة… أو ترجع الأولى بعد نسيان.

ثانياً: عدد الرواة الهائل جعل الرواية سائلة لا ذروة لها. بحيث تشتت العقدة الدرامية الكبرى. وإن كان لكل شخصية عقدتها الخاصة.

كنت أتمنى أن المذبحة في هجرة وقش -وهي بؤرة القص وهدفه وفيها كانت نهاية المطرفية إلى الأبد- لو حظيت بكثير من التكثيف، لتكون ذروةً وعقدةً مركزية. ففي هذه الحادثة ارتكبتْ الفظاعات وكان القتل والسلب والنهب والسبي وانتهاك الأعراض والاغتصاب حتى الموت. كما وصفت الزهراء في صفحت 96 من الرواية حين جرى اغتصابها وأمها التي فارقت الحياة أثناء التناوب على اغتصابها.

لكن ذلك الحدث المهول والذروة المفترضة تشتت بين الرواة مما أفقدها كثيراً من الحرارة الدرامية.

وفي كل الأحوال رواية (وقش) رواية مدهشة صادمة جاذبة.

منقول

رحم الله القيل وليد دماج والهم اهله وذويه الصبر والسلوان


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫38 تعليقات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى