توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشرية (٦)…


جولة فى تاريخ البشرية (٦)

يتندر الناس أحيانا ب”أقدم مهنة فى التاريخ”. وهم يلمحون بذلك إلى مهنة يخجلون من ذكرها بالإسم. تلك المهنة قديمة بلا شك (وربما سنتحدث عنها فى تعليق آخر،) أما كونها أقدم مهنة، فهذا أمر فيه جدال. الراجح أن أقدم مهنة هي مهنة رجل الدين.

ظهرت مهنة رجل الدين فى فجر البشرية، أي فى مرحلة الصيد وجمع الثمار، (راجع الحلقة ١). وكان رجل الدين هو الشخص الوحيد فى العشيرة الذى لا يصطاد ولا يجمع ثماراً، بل كان الآخرون يطعمونه من ثمار جهدهم. وكان يمثل مزيجاً من ساحر وطبيب وحكيم وفلكي وحافظ لتاريخ العشيرة وقاضى لفض النزاعات. وتعرف هذه المرحلة فى تاريخ الديانات بالشامانية (shamanism) لأن رجل الدين كان يسمى ‘شامان’ فى عدد من المجتمعات.

عايننا الشامانية بشكل مباشر فى عشائر لم تتطور لسبب أو لآخر (فى پاپوا-غينيا الجديدة وحوض الأمازون على سبيل المثال.) كما ما زلنا نشاهد آثارها فى المجتمعات المتطورة نسبياً – فى مصر مثلاً لا زال البعض يمارسون الزار (*)، ويصنعون التمائم والرقيات، ويبخرون البيوت لطرد الأرواح الشريرة. ولردع الحسد تقوم العرافة بقص “عروسة” من الورق وطعنها تكراراً بإبرة وهي تلعن الحاسد؛ وهذه كلها ممارسات شامانيه.

كان الناس فى المرحلة الشامانية يؤمنون بوجود أرواح فى كل مكان – فى الغابة وفى النهر وفى الكهوف وتحت الصخور إلخ. ووصلتنا أسماء مختلفة لهذه الارواح ما زالت شائعة الإستعمال، مثل العفريت والجن والمارد والجنية والحورية. ولم يكن جوهر العقيدة الشامانية هو عبادة تلك الأرواح (بمعنى تمجيدها وتسبيحها والتضرع لها والصلاة عليها،) بل كان الهدف هو إرضاؤها وإتقاء شرها. وكان الشامان هو الوسيط الذى يعرف كيف يتواصل مع تلك الكائنات. (هو لم يكن فى الحقيقة يعرف شيئاً من هذا، لكن الناس كانوا يعتقدون أنه يعرف وهذا هو المهم.)

ذكرنا فى الحلقات ١ و ٢ أن تطور البشرية الإقتصادى والإجتماعى والتكنولوچى ينقسم إلى مراحل. بالمثل يمكننا تمييز مراحل مختلفه فى تطور المعتقدات – أولها المرحلة الشامانية أو مرحلة الأرواح (animism) التى بدأنا بها هذا التعليق؛ بعدها أتت مرحلة الآلهة المتعددة (polytheism)، ثم مرحلة التوحيد (monotheism). ولم يكن التحول من مرحلة إلى أخرى واضحاً أو قاطعاً أو سريعاً، بل أن الشامانية إستمرت بعد التحول إلى عبادة الآلهة، (وهي مستمرة حتى الآن كما ذكرنا.) كما أن التعددية ما زالت سائدة فى نصف البشرية، ولم تختفى تماما بعد إنتشار الديانات التوحيدية فى النصف الآخر.

مع إنتقال البشرية من مرحلة التجوال (الصيد وجمع الثمار) إلى مرحلة الإستقرار (الزراعة والرعي،) ظهرت الديانات المنظمة بآلهتها ومعابدها وكهنتها، وكانت كلها ديانات متعددة الآلهة. لا يذكر التاريخ إسم نبي أو نبية أرشدت الناس إلى أن هناك إله إسمه رع وآخر إسمح حورس. (ربما كان هناك شخص كهذا لكن التاريخ لم يحفظ لنا إسمه لأن الكتابة لم تكن قد ظهرت بعد.) على أي حال، بالتدريج تكونت جوقة من الآلهة، وأمسك الكهنة بزمام الأمور، وتحول دور الشامان من رجل دين وراعى إلى ساحر يضع اللعنات على الأعداء مقابل أجر، ويتواصل مع أرواح الموتى، ويقرأ الغيب، ويتنبأ بالمستقبل. ودخلت النساء إلى المهنة، وبالتدريج أصبحن القوة السائدة.

ربما كانت النقلة من الشامانية إلى الديانات المنظمة إنعكاساً لما حدث فى المجتمع البشري نفسه: فمع تحول البشر من التجوال إلى مساكن دائمة تحولت الآلهة أيضاً من الهيام فى الغابات والأنهار إلى السكنى فى معابد من الحجر. ومع ظهور رؤساء وتنظيم هرمي بين البشر تحولت الآلهة كذلك من جمهور هلامي من العفاريت والجنيات إلى شخصيات متميزة مثل أوزيريس وحورس وأرطميس. فيما عدا ذلك لم يكن ثمة خلاف جوهري بين الأرواح والآلهة، فكلاهما كان يتمتع بخاصيتين أساسيتين تميزهما عن البشر – الأولى (والأهم) هي الخلود، أي أنهم لا يموتون ولا يؤثر عليهم الزمن؛ والثانية هي القدرة على أعمال ليست فى مقدور الإنسان، مثل التواجد لحظياً فى أي مكان، والإختفاء عن البصر، وإختراق الحوائط، وغير ذلك.

وحتى لا يفيض الكلام المباح عن الحيز المتاح، سنكتفى بهذا القدر فى هذه الحلقة، وسنستأنف الحديث فى الحلقة القادمة عن مرحلة تعدد الآلهة.
____________

*) لا أعرف إذا كانت ممارسة الزار مستمرة فى مصر، لكنى شاهدتها فى طفولتى. كانت الكوديه (أو الكوديانه) تنشد وترقص بإيقاع متسارع حتى تصل إلى مرحلة من الغيبوبة (trance) تتواصل فيها مع الأرواح. وهذا بالضبط ما كان يفعله الشامان فى المجتمعات البدائية.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫10 تعليقات

  1. الفكر الغيبي قديم ومتأصل ولهذا فمن المقبول اعتباره غريزيا. هو أقدم صور التديين. لذلك فالتدين حاجة إنسانية فطرية. أرجّح أن الانشغال الشديد بالموت حوله من ظاهرة طبيعية إلى ظاهرة “غير طبيعية” أي فوق طبيعية. وأرجّح أن هذا الانشغال مرتبط بالفكر الغيبي. ترى ما سر جوهرنا ككائنات؟ قدمت الأنثروبولوجيا أهم مفاتيح الإجابة (وليس كلها). اختيار الأستاذ فريد للموضوع يدل على ميوله الفلسفية. وأهم مدخل الى الفلسفة هو الطبيعة الانسانية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى