كتّاب

ذنوب فون هاڤن…..


ذنوب فون هاڤن..
ـــــ

[ ….]

في الأيام التالية رفض فون هاڤن مغادرة المنزل “كانت هذه الفقرة مكتوبة باللون الأحمر، ما يعني أنها قد تخضع لتعديل جديد”. كان شحوبه يزداد قتامة، وأمكن رؤية أشياء سحيقة في عينيه الغائرتين. ما إن ينزل الليل على المخأ حتى يصير جسد فون هاڤن جمرة، ويبدأ في الهذيان. كانت يتحدث عن الملوك والنساء، وأحياناً عن السفن والمعارك. في الليلة الرابعة قال إنه سيكتب وصيته وذهب إلى النوم على سقف المنزل. الطبيب كريمر صار يقضي النهار في منزل صاحب الدولة، وكان صاحب الدولة رجلاً من الجبل على علاقة وثيقة بالإمام الحاكم في العاصمة صنعاء. وفي الليل يصعد إلى السطح ويقضي وقتاً في رعاية فون هاڤن الذي كان يحتضر كل ليلة حتى الفجر، ثم يغرق في سبات عميق حتى الظهيرة. لم يكتب فون هاڤن قط وصيته. في الليلة السابعة ارتفعت حرارته كالعادة وذكر اسم امرأة عربية لا نعرفها، وكان يحدّق كالغرقى في عيني فاطمة. هوى بعد ذلك في سباته الأخير وهو يهذي بالإيطالية تارة وبالعربية تارة أخرى.

نهار اليوم التالي اجتمع عدد من الأوروبيين الذين كانوا يتواجدون في المدينة ويعملون في تجارة البن وأخذنا معاً الجثمان إلى مقابر الفرنسيين خارج المدينة. كان في مقدمة الجنازة سبعة رجال كاثوليكيين جاؤوا على ظهر سفينة من بومباي. نصحنا إسماعيل بأن نضع الجثمان في لباس ناسك حقير حتى لا يسرقه السكان المحليون، إلا أن كريمر رفض الفكرة بصورة مطلقة قائلاً إنه سمع من زوجة صاحب الدولة قصصاً كثيرة عن تقدير المحليين لقبور الغرباء”

أحسّ فون هاڤن بانقباض في صدره وهو يقرأ نهايته على ذلك النحو، غير أن بعض الرضا داهمه لما رأى جثمانه يذهب إلى مقابر الفرنسيين. هو لا يزال هناك، تخيّل، في صحراء العربية السعيدة منذ مئات السنين يعيش كصاحب قبر فرنسي. قفز الرجل على فقرات كبيرة فقد كان يريد رؤية جنازته وحسب. الصفحة الأخيرة ستكون هي ما يعنيه الآن. ثمة نهاية وضعتها حورية وعدلتها الراهبة أورسولا.

ستكون، أخبرته حورية، نهاية مشرّفة تليق برجل كان من أعظم المتخصصين في أدب الشرق: فون هاڤن.

“مال قلب فاطمة إلى فون هاڤن. كان الرجل الوحيد الذي يجيد العربية على نحو مكنه من الثناء على جمالها بعبارات مؤثرة وهم لا يزالون على ظهر السفينة. في اليوم الأول قال إنه كان يشرح لها كيف تصنع السكاكر في أوروبا. كنت أقضي ـ من المفترض أن المتحدث هو كارستن نيبور ـ وقتاً في قياس المسافات ورسم الجبال التي كنا نراها من وقت لآخر. وكان فورسكال يقيس ملوحة البحر ويدرس أمواجه الصغيرة، وكنا نتبادل ملاحظاتنا.على خلاف البحر المتوسط كان بحر العرب هادئاً وكانت الرياح تهبّ من الشمال، وما من سفنٍ تحمل المدفعية. انصرف فون هاڤن، الذي لم يجد له عملاً على السفينة، إلى فاطمة. ناولني، في ليلة، خبزاً ساخناً كان العمانيون عراة الصدور يصنعونه في مقدمة السفينة. قال وهو يناولني الخبز إن فاطمة تعرف الشيء الكثير عن البحار.
ـ هل قالت لك شيئاً جديداً عن هذا البحر؟ سألتُه.
ـ قالت إنه سينتهي إلى مضيق في الأسفل وقد لا تستطيع السفينة عبوره لشدة ما هو ضيق.
ـ هل أنت متأكد أنها كانت تحدثك عن البحر؟
ـ أظنها كانت تتحدث عن البحر.
أجاب فون هاڤن مستغرباً.

عندما لاحت قباب ومنازل اللّحَيّة سمعتُ فون هاڤن يقول لبرغرين السائس إنه صار يعرف الكثير عن تلك البلاد. كان برغرين، مثلي، قد لاحظ إعجاب فاطمة ـ لنقُل إنه كان إعجاباً ـ بفون هاڤن، ولم يكن مرتاحاً للأمر. الطبيب كريمر حاول التقرب منها، كان يحاول الفوز ببعض الود نظير ساعته التي دفعها إلى مالكها القديم. بعد وقت قصير انصرف كريمر إلى عمله.

جثا فورسكال على ركبتيه بالقرب من مقعد كبير البحّارة، كانوا سبعة، في مقدمة السفينة. كان يمد بصره فوق البحر بشكل أفقي، وأحياناً ينظر من خلال ناظوره الذي يقلب الأشياء. سألته، وأنا أقف خلفه، عن الذي لفت انتباهه في هذا البحر المستوي والهادئ فقال “إنه المكان الأمثل لحروب البحار”
ـ ولكننا لم نر سفناً حربية. قلتُ له.
ـ ذلك أن الأراضي القريبة من هذا البحر لا تعرف المدفعية. قال فون هاڤن.
ـ إذا استقر بنا الحال قريباً من هنا سنعلم العرب صناعة المدفعية. قلتُ ضاحكاً.
ـ لو عرف العرب طريق المدفعية سيبحرون إلى المتوسط. قال جادّاً.

في الأثناء تلك كانت فاطمة تقف أمام الخبّاز، ناولها رغيفاً استلمته بيدها اليسرى وذهبت به إلى كريمر. رأينا، فورسكال وأنا، دمعتين لاهبتين في عيني الطبيب، ولو أنهما نزلتا لثقبتا السفينة. لقد دفعت له قرصاً ساخناً نظير كل عواطفه”.

كانت الجملة الأخيرة مكتوبة بالأحمر مما يعني أن الراهبة تفكّر بتعديلها فهي وإن أرضت فون هاڤن إلا أنها جارحة بالنسبة لكريمر.

توقف فون هاڤن عن القراءة وقام يعد صفحات الجزء الخاص به. كانت زهاء ١٨ صفحة. يسترجع فون هاڤن يومه: ذهب مساء هذا اليوم إلى الدير وهو يحمل ثلاثة ذنوب قال إنه سيعترف بها دفعة واحدة. جلس إلى جوار حورية كامل وأظهر رباطة جأش زائفة. همست فيه حورية، وهي تعلم ربما الأشياء التي تساوره “وجدنا لك نهاية لائقة”. فون هاڤن نفسه لا يملك صورة واضحة عن نهاية تليق به. كان يفكّر بأمر واحد:
لا يريد الموت في العربية السعيدة. ماذا لو سمعت الأختان ذنوبه.

خشي أن يتلعثم في كلامه إذا ما قام للاعتراف، الأمر الذي دفعه إلى كتابة الذنوب على ورقة. إليكم الذنب الذي كتبه ولم يعترف به:

“أنا ابنُ عمّي، وأبي لا يعرف عن ذلك شيئاً. كان أبي من العمال الذين رمّموا كاتدرائية كولن بعد الحرب. وبالرغم من أنه لم يكن نازياً إلا أنه كان يردد الأناشيد النازية أثناء العمل في الكاتدرائية، وقد أدى ذلك إلى طرده. وكان عمي على الضفة الأخرى يعمل في إعادة بناء الجسر الذي يصل بين ضفتي مدينة كولن ويردد مع الكثير من العمال أغاني الفلاحين. ذهب أبي بعد ذلك إلى الجسر، وهناك واصل العمل حتى اليوم الذي تصادم فيه مع أحد المشرفين، واشتبك الرجلان مستخدمين بعض آلات البناء. بعد ذلك قرر أبي الذهاب إلى الشمال، إلى روستوك، وكنت قد بلغت السادسة من العمر. صار يزور أمي مرة في الشهر. كانت أمي تعمل، وكانت تتنقل بين مواقع بناء في المدينة، ومع الأيام أمّن لها عمي شغلاً بالقرب من مكان عمله الجديد بعد الفراغ من الجسر. كان يعود مع أمي إلى البيت ويغادرنا بعد تناول العشاء، وأحياناً يواصلان الحديث حتى يدركني النعاس. مع الأيام أدركت أنه كان يضاجعها، كانا يتضاجعان بضراوة لم تكن وحسب كافية لإيقاظي، بل لحفر ذاكرتي وجرحها على نحو بالغ. ثم صرت أتلذذ بالاستماع إليهما متظاهراً بالنوم. مع مرور الوقت صرت أحنّ لتلك المضاجعات. سمعتها تحدثه عن ولده الذي يشبهه في العناد وفي الرائحة، وفهمت أنها كانت تتحدث عني. تخلى أبي عن العمل في روستوك وعاد إلى كولن، وتلاشى عمي عن الصورة شيئاً فشيئاً. سمعت فيما بعد أن عمّي وجد عملاً في السكك الحديدية. كتمتُ السر عن أمي وأبي، عن أمي التي تعلم وأبي الذي لا يعرف. قبل عشرة أعوام، وأمي تحتضر في المستشفى، كنت أعودها، وأجلس إلى جوارها. وضعتُ على الكوميدينة القريبة من رأسها ثلاث صور تعود إلى شبابها، أظهر فيها كلها. في يوم جمعة، بين الثالثة والرابعة عصراً، طلبتُ الحديث إلى الطبيب المعالج فأخبرني أن آلامها خفت بعد أن رفع لها جرعة المورفين. قلت له إني وجدت لها مكاناً في “هوسپيتز”، وهو المكان الذي يوضع فيه المحتضرون، فقال إنها تُحتضر بالفعل ومن الممكن أن تموت الليلة أو بعد غد. مكثت جوارها حتى الثامنة، كان السرطان قد التهم عمودها الفقري. استطاعت أن تفتح عينيها ببطء شديد، كما لو أنها كانت تجرّ مقطورة. نظرت إلى الصور الثلاث، ثم إلى وجهي. داعبتُ جبينها بظهر أناملي وسألتها ما إذا كانت لديها رغبة في شيء فأغمضت عينيها ثم فتحتهما. كان تنفسها عسيراً، وكان قلبي يوشك أن ينفجر. همست فيها سائلاً ما إذا كانت تريد أن ترى عمّي أو صورة له، فأغمضت عينيها ولم تفتحهما بعد ذلك. حتى وأنا أقبل جبينها وأودعها بقيت عينيها مغلقتين وصارت أنفاسها أكثر عسرة. قبل منتصف الليل هاتفني الطبيب المناوب وقال إن أمي قد توفيت. حزن أبي على أمي بالمقدار الذي توقعته، وكان يعيش كرجل متقاعد يمضي أغلب وقته في المشي.

منذ ثلاثة أعوام يعيش والدي في دار للمسنين بعد إصابته بالعته، وفقدانه للذاكرة. في الصيف الماضي خسر فريق دورتموند مباراته أمام شلكه فلم أتحمل الصدمة. عدت مع أصدقائي بالقطار وكنا نخلط الخمر بشراب البرتقال حتى بدأ لون العالم يتحول إلى الأصفر الداكن. كانت الأجواء لا تزال مشمسة رغم إن الساعة كانت تقترب من العاشرة. أخذتني خطاي، لا أدري لماذا ولا كيف، لزيارة أبي في دار المسنين. وجدته يمشي في حديقة قريبة من الدار، صافحني ببرود وأراد أن يواصل مشيه. جلستُ على واحدة من كراسي الحديقة ومضى هو في طريقه، ثم سرعان ما عاد إلي. سألني وهو يقف أمامي: أنت سكران؟ أجبته: أنا سكران. جلس إلى جواري ونسي ما قلته له للتو.
ـ هل تفتقد أمي؟ سألته.
ـ أوه
ـ كثيراً؟
هز رأسه وامتلأت عيناه شيئاً فشيئاً بالدمع ولم يقل شيئاً.

ـ هل تعلم أنها كانت تخونك مع أخيك، وأني لست إبنك؟

هب والدي واقفاً واختفت الدمعتان من عينيه. حملق في عينيّ واللعاب يتطاير من بين شفيته وهو ضام قبضتيه.
“أنت خنزير”قال وهو يزمجر واللعاب يتطاير من فمه.
“إنها الحقيقة” قلتُ له وأنا أتحاشى النظر إلى عينيه.
بصق في وجهي ومضى.

بقيت في مكاني زهاء عشرين دقيقة فرأيته قادماً. بدا لي في تلك اللحظة كما لو أنه قد شاخ عشرين سنة دفعة واحدة. صار ذابلاً ومنحنياً أكثر، وكانت قدماه تتباعدان وتقتربان كما يحدث للمرء في ساعات الذل. وقف أمامي وتأملني بسكينة وسألني: منذ متى وأنت هنا؟ لم أرد على سؤاله، جلس إلى جواري وبدأ ينتحب. قمت وتركته. وبعد ساعتين، بعد منتصف الليل، قرعت الشرطة باب منزلي بحثاً عن والدي الذي اختفى منذ أكثر من ساعة ولم يترك أثراً. قبل الفجر عادت به الشرطة، كان واقفاً أمام الكاتدرائية يتأملها من الجهة الغربية، من الجهة التي كان يعمل فيها قبل خمسين عاماً”

كيف يمكن للمرء أن يعترف بذنوب كهذه للناس، سارر فون هاڤن نفسه وهو يطوي الورقة مرة أخرى. هو الآن في منزل صديقه كارستن نيبور الذي ذهب، فيما يبدو، للنوم. هو معني، بصورة ما، بنهايته. لننسَ أمر الرحلة، فالرجل الذي يتقلب الآن على أريكة بنية اللون في منزل صديقه لديه سؤال موجع: لو سمعت حورية ذنوبه أكانت لتجهد نفسها في كتابة نهاية تليق به؟ ما النهاية التي يمكن أن تليق برجل فعل مثل ذنوبه؟

مات فون هاڤن في المخا ودفن في مقابر الفرنسيين وشيعه كاثوليكيون أقحاح، وهو الآن يحرسه أتباع الشيخ الشاذلي، كما أخبرهم نيبور. أما هو، الرجل الذي يحمل تلك القصة القذرة والمؤلمة في جمجمته، أيستحق نهاية أفضل من نوم ناعم على سطح منزل قريب من البحر؟

ــــ
طريق الحوت
م.غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫16 تعليقات

  1. اسلوبك في الكتابه ممتع وانتقائك للمفردات يحسب لك
    لكن اسلوب السريالية واقحام الماضي بالحاضر واخذ شخصيات لا تمت للواقع ثم الهروب بالتشبيهات والتسطيحات والرمزية والتكعيبة يتماهى مع الذائقه الادبية الالمانية والاوروبيه
    لانه لم يمر على الادب العربي حالة مثل هذي على ما اعتقد
    لكن في الاخير نحن نقرأ لنتمتع بفرادة اسلوبك
    واذا تكرمت اقبل اضافتي 😘

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى