مفكرون

حسين الوادعي | سَكَن الجُرح النرجسي التاريخي (سقوط الحضارة اليمنية القديمة

سَكَن الجُرح النرجسي التاريخي (سقوط الحضارة اليمنية القديمة في 525م) وجدان اليمنيين وعقولهم، وتَحَوّل إلى اضطرابات عُصابية حضارية تتمثل أحياناً في التبجيل المتضخم للتاريخ اليمني والذات اليمنية، وأحياناً أخرى في التبخيس الذاتي والرضى بواقع التخلف والدفاع عنه تحت مسمى "الخصوصية".
لقد لازم الجرح النرجسي التاريخي الشخصية اليمنية طوال الخمسة عشر قرنا الماضية وحملوه معهم في هجراتهم أينما حلّوا.
وشكل دخول اليمن تحت الهيمنة الإـ///ــلامية نَكئاً جديدًا للجرح تمثل في ظواهر التمرد الفاشلة التي قادها اليمنيون ضد سلطان "الحضارة" الجديدة، ابتداء من تمرد عبهلة العنسي على حكومة الرسول، ودعم أغلب التمردات على مركزية الخلافة، وصولاً إلى بعث الصراع القحطاني العدناني أو الصراع القيسي اليماني في الشام والعراق والاندلس.
أعادت "الانتلجنسيا اليمنية" في القرون الإـ///ــلامية الأولى كتابة التاريخ من وجهة النظر اليمنية، وكان أشهر وأمهر كتاب السير والتواريخ من اليمنيين. حتى إن الكِتاب الأشهر لسيرة الرسول (سيرة بن هشام) بدأ بسرد تاريخي طويل لملوك اليمن وعظمتهم وكأنه رثاء غير مباشر لخروج السلطة من ملوك اليمن العظام إلى النبي العربي وقبيلته!
هاجر اليمني إلى الحجاز والعراق والشام ومصر وشمال إفريقيا والأندلس، وظل يتفاخر بحضارته ونسبه وملوكه وسدوده وأجداده.
تحول الفخر بماضي الحضارة اليمنية العريقة إلى مخدرٍ حَجَب عن اليمني رؤية حقيقته وواقعه الصعب.
كان قد تحول إلى تابع ، وإلى مقاتل مؤقت في يد الأمويين أو العباسيين أو العلويين.
استخدمه الفاتحون مقاتلاً لا يُشق له غبار في الاستيلاء على البلدان ثم استغنوا عنه وحرموه حتى من الغنائم.
وكلما زاد تهميشه واستبعاده وانحطاط واقعه كان يُعوض ذلك بالمزيد من التغني بماضيه المجيد.
فقد حتى سيطرته على بلده. وظل اليمني منذ القرن الخامس حتى بداية القرن العشرين يُحْكَم، في الأغلب، من قبل سلالات وملوك غير يمنيين قادمين من الشمال، من العلويين إلى الرسوليين والزياديين والايوبيين والنجاحيين.
لكنه ظل يتفاخر بالماضي، وظل الجرح النرجسي يتوسع حتى صار جزءا من نظرته للعالم.
مَرّت تحت العشب مياهٌ كثيرة، وتغير العالم وصار اليمن بلداً محاصراً ومفككاً ومحتلاً من قبل أشقاء النفط.
وصارت الدولة محتلة من قبل 'العدنانيين" الذين أثاروا داخله، من جديد، الأَلَم التاريخي لسقوط حضارته وتحوُلِه إلى تابع "لأعراب قريش".
لم يجد اليمني، كالعادة، حلاً غير التداوي بالضغط على الجرح النرجسي، والمزيد من التغني بالماضي المجيد.
إن بلده أقدم من الإمارات والسعودية ودول الخليج كلها. لا يهم إذا كان الفارق في الثروة والتعليم والتنمية بينه وبين هذه الدول فلكياً. ولا يهم إذا كان هو الأفقر والأكثر أُميّةً وسط جيران هم من الأغنى والأفضل تعليماً.
ما يهم أن لديه تاريخا أعرق، وآثارا أقدم، وبقايا حجارة منحوت عليها بخط "المسند"!
تبدو النكتة القديمة حول الفقير المعدم الذي لا يمل من التفاخر بجدِّه العاشر الاقطاعي الثري واقعاً يومياً في اليمن.
حتى إن النرجسية اليمنية المجروحة ظلت تتداول صورة حذاء في المتحف عمره 2000 سنه!
نعم.. حذاء قديم متهالك أثار من الفخر داخل الشخصية المنجرحة أكثر مما أثارته فتوحات الجينوم البشري وغزو الفضاء والذكاء الاصطناعي واقتصاد المعرفة داخل صُنّاعها!
ينظر اليمني لنفسه على أنه الأرقى والأعرق والأكثر أصالةً وإبداعاً وذكاء، بينما ينظر له العربي القريب والغربي البعيد نظرة مختلفة تضعه في خانة البدائي الطيب!
لكنه لا يهتم…
فلا شيء في العالم أفضل من جو اليمن، وأكل اليمن، وعادات اليمن ولِبس اليمن، وموسيقى اليمن…..
هذه من المُسلّمات العقائدية للساكنين في هذا الطرف الجنوبي النائي في قاع العالم حتى يظهر "الكسندر فلمنج" وطني يمني يفتح الجرح ويداويه ويطهره.
هل سيصب هذا المقال المزيد من الملح على الجرح المفتوح؟ أعرف الإجابة مسبقا!

على تويتر
[elementor-template id=”108″]

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى