توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشريه (٩)…


جولة فى تاريخ البشريه (٩)

عندما يحدثنا التاريخ عن حاكم رشيد مستنير، كثيراً ما نرى الجملة ‘… وإزدهرت فى عهده الفنون والآداب …’ لأن الفنون هي بمثابة بارومتر يشير إلى صحة المجتمع، تزدهر فى فترات الأمل والتطلع للمستقبل، وتخبو فى فترات الإنحلال و الكبت.

نبدأ بالتعريف – ما هو الفن وما هو الأدب؟ يمكن تعريف الفن بأنه كل عمل خلاق له جانب جمالي أو تعبيري (وليس ضرورياً للبقاء). وقد كان الفن جزءاً من حياة الإنسان منذ البدايه، أي منذ ما قبل التاريخ – من التهويدات التى تنشدها الأم لطفلها، إلى تزيين الجسم والشعر بالملابس والحلي، إلى أناشيد الرواة، إلى الرقص الفردى والجماعى، … إلخ. وقد عثر علماء الآثار على أعمال فنية يتجاوز عمرها ٢٠٠ ألف سنه لها قيمة جمالية وتعبيرية لا شك فيها (*).

والأدب نوع آخر من العمل الخلاق خامته هي اللغه. وقد كان الشعر والقصص أصلاً من فنون الأداء (عندما كان الرواة ينشدون قصص أبى زيد الهلالى فى مصر أو أوديسيوس فى اليونان.) لكن إختراع وإنتشار الكتابة أدى إلى أن أصبح الأدب عنصراً أساسياً فى الحضارات وأحد أهم مصادر المتعة والثراء الفكري. (بل أن الأدب أصبح عنصراً أساسياً فى المعتقدات الدينية كما ذكرنا فى الحلقة ٨).

تنقسم الفنون عموماً إلى نوعين – فنون تشكيلية وفنون أداء (performing arts). الفنون التشكيلية يدخل فيها الرسم والنحت بأنواعهما، وكذلك عدد من الحرف التى تحتوى على عنصر جمالي مثل المعمار والديكور والتصميم الصناعى (**). أما فنون الأداء فتشمل الموسيقى والغناء والرقص والدراما. والفارق الأساسي بين الفن التشكيلى وفن الأداء أن الأول ينتج عملاً باقياً ملموساً يمكن إقتناؤه وتداوله. أما فنون الأداء فهي عابرة، يستمتع بها الناس أثناء أدائها فقط (***).

كان حظ الفنون التشكيلية سيئاً فى الشرق الأوسط، فقد حظرت الشريعة الموسوية تصوير الإنسان أو الحيوانات فى سياق حملتها للقضاء على عبادة الأصنام. ثم جاء الإسلام فأكد هذا التحريم وشدّد عليه. وكان هذا بمثابة ضربة قاضية للفن التشكيلى. لكن، كما لكل سحابة داكنة جانب مضيئ، كذلك كان الحال هنا، فقد إضطر الفنانون إلى توجيه قدراتهم الخلاقة إلى النقوش الهندسية، ونتج عن ذلك فرع جديد وممتع من الفن التشكيلى يُعرف بالأرابيسك (arabesque).

من الطريف أن الفرس وجيرانهم إلى الشرق لم يمتثلوا لهذا الحظر، وإستمروا فى تصوير البشر والكائنات الحيه، وإزدهر عندهم نوع متميز من الرسم يُعرف بالمينياتورات (miniatures). كما أنهم لم يترددوا فى إستعمال الأشكال النباتية والحيوانية فى نقوشهم، حتى تلك التى تزين دور العباده. ونرى أمثلة بديعة لهذا فى إصفهان وسمرقند وبخارى.

هذا ما حدث فى العالم الشرقي. أما فى العالم الغربي فقد كان الفن التشكيلى قد بلغ ذروته فى زمن الحضارة الإغريقية ووريثتها الرومانيه. (وما زالت إنجازاتهم الفنية لا يعلى عليها حتى اليوم.) ومع إنتشار المسيحية ضيّق رجال الدين الخناق على الفنون الجميلة، وأدخلوا مفاهيم العيب والعورة ودمغ الجسم البشرى بالذنب والخطيئة، وإعتباره شيئاً مشيناً يتعين إخفاؤه (كما هو الحال فى مصر الآن.). وعلى مدى ١٠٠٠ سنة تقريباً (تُعرف بعصور الظلام) إقتصرت الفنون التشكيلية على رسم الأيقونات الدينية وفق أنماط جامدة.

لكن الفرج جاء إلى أوربا من حيث لا يتوقع أحد – على أيدى راهب أصولى متزمت إسمه ساڤونارولا (Savonarola): أدى تزمت ساڤونارولا المسعور إلى رد فعل عارم ضد تسلط الأصوليين على المجتمع، وإنقلبت عليه مدينته فلورنسا لتبدأ عصر النهضة والنور الذى يعيش فيه العالم الغربي الآن.

نعود إلى الأدب – أدرك الناس منذ القدم أن الشعر والأغانى أسهل حفظاً وأعمق تأثيراً على المستمع من النثر. وإستعمل الأنبياء الأوائل هذه الخاصية فى كتاباتهم لجعل رسالاتهم أسهل فى الحفظ وأنسب للترتيل والتعبد . نذكر على سبيل المثال لا الحصر المزامير، ونشيد الأنشاد وكتاب أيوب، وكتابات هوميروس وأوڤيد وڤيرجيل. وليس كل نص منظوم يعتبر شعراً، وكثيرٌ منها مجرد سجع. وفى مقال قادم سأناقش الصفات التى تميز الشعر عن غيره من النصوص المنظومه. لماذا، مثلاً، جملة “… وعَدَوْنا فسبقْنا ظلّنا …” هي شِعْر، بينما “ذهب الليل، طلع الفجر …” ليست شِعراً؟ والفارق لا يكمن فى مدى “كلاسيكية” اللغة، بل هو أعمق من ذلك.

كل نقطة ذكرتها أعلاه لها تفاصيل وتاريخ مثير. لكن مقصدى من هذا المقال هو مجرد وضع بعض العلامات على أرضية الموضوع، حتى نعود ونناقشها ببعض التفصيل فى مقالات قادمه.

______________________

*) من أشهر الأمثلة وأجملها لوحات كهوف لاسكو (Lascaux) فى جنوب غرب فرنسا. لن أستفيض فى الحديث عنها هنا، فالقارئ يستطيع مشاهدتها (ولن يندم) على الإنترنت.

**) بعض النقاد يقصرون تسمية الفنون الجميله (fine arts) على النحت والرسم، لأن الحرف الأخرى لها طابع تجارى ولا يمكن تمييز نسخة أصلية لمنتجاتها.

***) مع إختراع تقنيات التسجيل الصوتى والبصرى أصبح فى الإمكان حفظ كل أداء وإعادة سماعه أو مشاهدته.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫15 تعليقات

  1. لابد من جمع وتدوين ونشر افكارك ومقالاتك الرائعه يا دكتورنا الجليل فهي ثروة يجدر بها ان تعرض في منصة لها قراء اوسع من الفيسبوك. 🌺

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى