جولة فى تاريخ البشرية (٨)…

جولة فى تاريخ البشرية (٨)

قبل الإنتخابات الأمريكية ظهر الرئيس السابق ترامپ أمام الكاميرات وهو يرفع الكتاب المقدس … رفع المتظاهرون فى ميدان التحرير أيضاً المصاحف أمام الكاميرات … يُقسم السياسيون الأمريكيون قسم الولاء وأيديهم على الكتاب المقدس … يضع الموظفون المصريون المصاحف على مكاتبهم كإعلان عن تقواهم … هذه بعض التجليات المعاصرة لظاهرة معروفة، وهي أن ‘الكتاب’ كان وما زال عنصراً أساسياً فى الديانات الابراهيمية، حتى أن أتباع هذه الديانات يُعرفون عموماً بأنهم “أهل الكتاب”.

لكن الكتاب فى صورته التى نعرفها اليوم لم يتزامن ظهوره مع ظهور الديانات الابراهيمية، وكان له تاريخ خاص به. لذا من المفيد أن نقف عنده لحظة قبل إستكمال الحديث. ذكرت فى تعليق سابق أن الكتابة بدأت بالنقش على شقفات من الفخار، ثم تطورت إلى النقش بالحبر على ورق البردى أو رقائق من جلد المعيز . ولما ظهرت الحاجة إلى تسجيل نصوص طويلة، إبتكر الناس فكرة وصل الصفحات ببعضها لتكوّن شريطاً ملفوفاً على عمود (*)، لكن هذه الفكرة لم تنتشر، وأقدم النصوص اليهودية والمسيحية التى عُثر عليها فى كهوف قمران (**) كانت مخطوطة على رقائق منفرده محفوظة فى أوانى فخاريه.

أما الكتاب الذى ينفتح على صفحتين، فيسمى ‘مجلد’ (codex)، وقد بدأ إستعماله فى القرون الأولى من عصرنا. فى مصر كانت صفحات المجلد تُصنع من ورق البردي، أما فى غيرها من البلدان فكانت تُصنع من جلود الخراف أو الماعز. أقدم المجلدات الجلدية التى وصلت إلى عصرنا هي مصحف المشهد الحسينى فى القاهرة ومصحف صنعاء. أما أقدم المجلدات البردية فهي مخطوطات نجع حمادى (***).

هذا عن الكتب وتطورها، وأهميتها فى الديانات التوحيديه. والآن إلى موضوعنا الأصلي:

تسمى الديانات التوحيدية الثلاثة بالديانات الإبراهيمية نسبة إلى إبراهيم / أبرام، وهذا الإسم باللغة السامية القديمة (proto-Semitic) يعنى ‘أبو الناس’. (*4). يؤمن اليهود والعرب إنهم من نسل إبراهيم – اليهود عن طريق إبنه إسحق، والعرب عن طريق إبنه إسماعيل. إحتفظت أولى الديانات الإبراهيمية (اليهودية) بالطابع القومي الذى كان من خواص الديانات التعددية التى سبقتها. لذلك لم تسعى إلى الإنتشار، ويقدر عدد أتباعها حالياً بنحو ١٥ مليون فى العالم. أما الدين المسيحى والدين الإسلامى فهما دينان تبشيريان عالميان يتبعهما حالياً حوالي نصف البشرية (*5). وقد إستتبت الأمور على هذا بعد إنتهاء عصور الغزو والإستيطان، أي منذ حوالي ٥٠٠ سنه.

لم يكن إنتقال البشرية من تعدد الآلهة إلى التوحيد سريعاً أو مباشراً. عندما ظهرت بشائر الفكر التوحيدى فى مصر (إخناتون) وعند العبرانيين، لم يكن أساسه أن هناك إلٓه واحد ولا يوجد غيره، (هذا جاء فيما بعد)، بل أن إلٓههم هو الأكبر والأقوى والأقدر على هزيمة الآلهة الأخرى. ونجد فى الأسفار الأولى من التوراة دلائل واضحة على هذا الفكر فى قصص متعددة (*6). ثم تطور هذا التصور إلى أن يهوه هو الإله الوحيد الذى يرقى إلى صفة الألوهية، بينما الآلهة الأخرى أعطوها مراتب أقل. وفى مرحلة لاحقة إعتبروا الآلهة الأخرى مجرد أصنام لا حول لها.

بدأنا مناقشة تطور المعتقدات البشرية بالحديث عن مهنة رجل الدين (حلقة ٦)، وكيف تطورت فى عصر الديانات المنظمة إلى منصب له سطوته (حلقه ٧). وعندما ظهرت أولى الديانات الإبراهيمية عند العبرانيين، خصصت الشريعة الموسوية سبطاً بأكمله للمهنة، (سبط اللاويين،) وقصرت المناصب الكهنوتية العليا على عائلة واحدة هي عائلة هارون. ولم تستبقى المسيحية هذا الجانب العرقى من تعاليم موسى، فقد كان يتعارض مع فلسفة بولس العالمية. وبعد إستتبابها فى أورپا خلقت المسيحية نظاماً محكماً لتخريج وترخيص رجال الدين. وكل الجامعات العظمى فى أورپا بدأت كمدارس لتدريبهم (السوربون وأوكسفورد وبولونيا وغيرهم.)

أما فى العالم الإسلامي فكان الإشتغال بالدين مبادرة شخصية لا تتبع الدولة. ولم يتخرج أغلب أعلام الدين من مؤسسة رسمية، كما لم يكونوا من العرب بل من الشعوب الأخرى التى دخلت الإسلام (البخارى، الزمخشرى، إبن تيمية، السيوطى، إبن خلدون، وغيرهم.) وإستمر هذا حتى أنشأ الفاطميون الأزهر كجامعة لتخريج رجال الدين. وظل الأزهر (ومصر عموماً) مؤسسة شيعية حتى رجعت إلى المذهب السني فى العصر الأيوبى.

مرة أخرى – ليست هذه التعليقات نصاً تعليميا يهدف إلى تغطية الموضوع من كافة نواحيه، بل هي خواطر عن بعض الخيوط التى قد لا يربطها الآخرون. ونختم بهذا حديثنا عن تطور المعتقدات الدينية فى المجتمع البشري، وهناك مجالات أخرى عديدة من مجالات النشاط البشرى تستحق التأمل والنقاش.
____________________

*) لا يزال اليهود يستخدمون فى طقوسهم نسخاً من التوراة على هذه الصورة.

**) عثر صبي كان يرعى المعيز فى منطقة قمران فى بادية فلسطين على كهف فيه أوانى فخارية تحتوى على مخطوطات قديمة. من ضمن تلك المخطوطات نصوص مشابهة لتعاليم المسيح لكنها تسبق عصره.

***) عثر فلاح فى مديرية نجع حمادى (سنة ١٩٤٧) على مقبرة راهب قبطي فيها أوانى فخارية تحتوى على مخطوطات قديمه. يقال إن أمّه إستعملت تلك المخطوطات كوقود للفرن إلى أن عرف بالأمر مدرس كان له قريب يشتغل بتجارة الآثار فى القاهره. إحتوت مكتبة نجع حمادى على نسخ من الأناجيل غير المعتمده (برنابا، يهوذا، بطرس … إلخ) التى كان الأسقف أثناسيوس قد أمر بحرقها.

*4) من الصعب تصور أن والديه سموه ‘أبو الناس’ عند ولادته. والراجح أنه إسم أُعطي له فيما بعد. (من السهل على من يتحدث العربية أن يلاحظ المقطع ‘أب’ فى كلمة أبرام.)

*5) كان المسيحيون فى البداية طائفة يهودية، لكن بولس الرسول نشر الديانة فى العالم الهيليني بعد أن خلصها من العادات اليهودية مثل الختان وتحريم أكل الخنزير.

*6) نذكر على سبيل المثال قصة تفوق يهوه على كهنة فرعون فى السحر، وقصة سرقة راحيل لأحد الآلهة من بيت أبيها، وقصة إنتصار يهوه على الإلٓه داجان عندما إستولى الفلسطينيون على تابوت عهد الرب.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات