توعية وتثقيف

جولة فى تاريخ البشرية (٥)…


جولة فى تاريخ البشرية (٥)

عطّل الله مشروع برج بابل بأن جعل الناس يرطنون بلغات مختلفه – هكذا تقول الأسطورة. لكن ما الذى حدث فعلاً؟ ما الذى جعل الناس يتكلمون بلغات مختلفه؟ دعونا أولاً نأخذ جولة سريعة فى موضوع اللغة حتى نتأكد من صحة مصطلحاتنا.

الجهاز اللغوى له مكونتان – مكونة ميكانيكية تشمل الحبال الصوتية وفجوة الفم واللسان والشفتان والأذن؛ ومكونة ذهنية تتولى ترجمة الأصوات إلى أفكار وصور ومعانى، أو تركيبها للتعبير عن أفكار وصور ومعانى. أي أن المكونة الميكانيكية مهمتها إنتاج الأصوات، أما القاموس والنحو والبلاغة فهم ملكات ذهنيه. المكونة الميكانيكية موجودة فى كثير من الكائنات الأخرى، لكن المكونة الذهنية عندهم محدودة للغاية، لذا يقتصر تواصلهم على إشارات للتحذير أو للمغازلة.

يُنتج الإنسان عادة حوالى ٣٠ صوت متميز، ومن هذه الأصوات يُكَوّن كلمات يتراوح عددها بين بضعة آلاف ومئة ألف (*). ثم ينسج من تلك الكلمات قدراً لا يُحصى من الجُمَل والتعبيرات والنصوص. وقد أدرك الإنسان الدور المحوري للسان فى هذه العملية فسمى اللغة نفسها لساناً (كما فى “لسان عربي مبين” مثلاً). وفى لغات كثيرة كلمة لغة وكلمة لسان مترادفتان.

عاش المجتمع البشري مئات الآلاف من السنين يتناقل المعلومات شفهياً. وسمح هذا بتراكم المعرفة إلى درجة محدودة، تحدها ذكريات جيل أو جيلين وواقع أن الذاكرة البشرية لا هي قوية ولا هي دقيقة (**). ولم تتقدم البشرية بشكل محسوس طوال تلك الحقبة. ربما ليس لهذا السبب وحده، لكن عدم القدرة على تراكم المعرفة كان بلا شك أحد أهم العوامل. وإستمر هذا حتى إبتكر الإنسان تقنيات لتسجيل المعلومات أهمها الكتابة. ويرجع الفضل فى إختراع الكتابة إلى أهل ما بين الرافدين (جنوب العراق حالياً).

بدأ إستخدام الكتابة فى العصر البرونزي (راجع جزء ٢) ولم تكن فى ذلك الوقت نصوصاً مسترسلة كما نعرفها اليوم، بل كانت مجرد تسجيلات لعدد المعيز أو كمية القمح المباعة والمُشتراة. ومضت قرون قبل أن يفطن الناس إلى إمكانية توسيع دائرة المعلومات المسجلة خارج نطاق صكوك البيع والشراء، ومن أول النماذج التى وصلتنا لنصوص أدبية/دينية مكتوبة ملحمة جلجامش.

إستخدم أهل مابين النهرين الطريقة المسمارية فى الكتابة. فكانوا يستعملون قلم بسط (stylus) أو عظْمة ذات طرف مثلث لعمل إنطباعات على لوحات من الصلصال ثم يخبزون تلك اللوحات فى فرن لتثبيتها. أما المصريون فبدؤا بالنحت على الحجر ثم تطوروا إلى الكتابة على ورق البردى بحبر مصنوع من الرماد. لم تكن الكتابة المسمارية ولا المصرية حروفاً كالتى نستعملها الآن، بل كانت على هيئة رسومات (pictograms, logograms) تمثل كلمات أو مقاطع. أما فكرة إستخدام حروف تُناظر الأصوات، فيرجع الفضل فيها إلى الفينيقيين (أسلاف أهل لبنان الحاليين.)

كانت القراءة والكتابة مهارات نادرة فى العالم القديم. حتى فى العصر الرومانى (وهو آخر الحضارات القديمه،) كانت نسبة القادرين على القراءة لا تتعدى ١%. أما القادرون على الكتابة فكانوا أقل من عُشر ذلك. وكان الكاتب (scribe) شخصاً ذا قيمة عالية فى المجتمع. حتى فى زمن طفولتى كان الكاتب فى مدينتنا رجلاً ذا مكانة، يذهب الناس إليه ليكتب لهم طلبات حكومية أو خطابات لأولادهم فى القاهرة أو تضرعات للمشايخ والقديسين.

نعود إلى أسطورة برج بابل: اللغات المعاصرة تبدو مختلفة لغير المتخصص فقط، لكنها فى الحقيقة مجرد فروع من لغات أقدم، وتكوّن شجرة قرابة شبيهة بالشجرة العائلية. على سبيل المثال – الإيطالية والأسپانية والفرنسية والرومانية تفرعت من اللاتينية وفيها تشابه كبير تحت السطح. الإنجليزية والألمانية والهولندية وعدد آخر غيرهم تفرعوا من الچرمانية. الروسية والأوكرانية والپولندية والبلغارية والصربية وغيرهم تفرعوا من اللغة السلاڤية القديمة. وكل هؤلاء لهم جِدّة مشتركة هى لغة السانسكريت التى نشأت فى الهند وإيران، وهكذا (***). ولم تتفرع اللغات عن بعضها فى لحظة كما تقول الأسطورة، بل على مدى قرون من الترحال والعزلة ثم الإختلاط والتزاوج. كيف نعرف هذا؟ هناك علماء فى تاريخ اللغات ومقارنتها يستخدمون طرقاً دقيقة لتحديد الحقبة التى تفرعت فيها كل لغة من الأخرى.

الراجح أن آلية تفرع اللغات كانت شبيهة بآلية تفرع الأنواع. فهناك طفرات “چينية” (mutations) تحدث فى اللغة بإستمرار. (من غاب عن بلده ٥٠ سنة ثم عاد إليها يلاحظ هذا بوضوح.) فإذا إنعزلت مجموعة من الناس عن مجموعة أخرى على مدى آلاف السنين، تتراكم الطفرات لتنتج لهجات متباينة ثم لغات مختلفة تماما. ثم تختلط تلك المجموعات مرة أخرى بالغزو والإستيطان والتزاوج فتختلط لغاتهم كذلك (*4).

مرة أخرى – هذه مجرد جولة خاطفة فى موضوع كتب فيه العارفون (وما زالوا يكتبون) مجلدات.
_________________

*) نستطيع، نظرياً، أن نُكوّن عددا هائلاً من الكلمات من ٣٠ حرف (١٠ مرفوعة لأُس ٣٢). لكن الناس (بإستثناء الألمان،) لا يستسيغون سماع أو كتابة كلمات بهذا الطول، ويفضلون أن يكون طول الكلمة ما بين حرفين وثمانية حروف.

**) أجرى أستاذ فى جامعة كارولينا الشمالية تجربة إصطف فيها نحو ثلاثين من الطلبة. همس الأستاذ للطالب الأول بمعلومة معينة وطلب منه أن يبلغها همساً إلى من يليه وهكذا. ولما أعرب الطالب الأخير عن المعلومة التى وصلته، كانت شيئاً مختلفاً تماماً عن المعلومة الأصلية.

***) اللغة العربية تفرعت من اللغة السامية القديمة، التى تفرعت منها أيضاً العبرية والآرامية والأشورية وغيرهم. أما الكتابة العربية فقد تفرعت من الخط السيريانى، ولم تكن دائماً كما هي الآن: تنقيط الحروف، مثلاً، لم يظهر حتى العصر الأموى، أما التشكيل فلم يظهر إلا بعد ذلك بزمن.

*4) تحتوى اللغة الإنجليزية (مثلاً،) على نسبة عالية من الكلمات الفرنسية الأصل (حوالى ٣٠% من القاموس) وكذلك من اللغات النرويچية والساكسونية وغيرها.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫10 تعليقات

  1. جولة تثقيفية وتعليمية أكثر من رائعة. لك خالص الشكر والتقدير على تقديم هذا المجهود الرائع لنقرأه نحن في دقائق ودون عناء 🙏🙏🙏

  2. حتي لمن يعرف بعض او كل هذا، انا اعرف بعضه، العرض المنطقي المرتب و الواضح مفيد و يعيد الي الذهن بعضا مما ذهب مع التناقص الشرير المطرد في ال neurons
    الف شكر

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى