توعية وتثقيف

بعد هزيمة ٦٧ ومجيء الخبراء العسكريين الروس إلى مصر جاءنى…


بعد هزيمة ٦٧ ومجيء الخبراء العسكريين الروس إلى مصر جاءنى تكليف من إدارة التعبئة العامة للعمل كمترجم بالقوات المسلحة (لمعرفتى باللغة الروسيه.) تركت عملى كمعيد بالجامعة، وبعد دورة تدريبية سريعة فى المصطلحات العسكرية كان من حظى أنهم قرروا إستبقائى فى القيادة العامة بدلاً من إرسالى إلى الوحدات مع الآخرين. أتاح لى ذلك فرصة لمشاهدة الأحداث من منظور لم أكن أحلم به.

كان هذا قبل أكثر من ٥٠ سنه، لكن كثيراً مما شاهدت لا يمكن نسيانه. وبالأخص عملية تدريب أول كتيبة مصرية على الإنزال البحري (marine landing). (الإنزال البحري هو أصعب وأخطر عملية عسكرية. أيزنهاور، مثلاً، خسر ١٣ ألف قتيل وجريح فى يوم واحد فى عملية نورماندى.) أثناء متابعة هذه العملية كنت كثيراً ما أستيقظ فى منتصف الليل لكي أصل مع الخبراء إلى سيدى كرير (غرب الإسكندرية) قبل أول ضوء لحضور البروفات. أول تلك البروفات كانت كوميديا مبكيه – فتحت السفينة فمها فى الظلام، وإندلق الجنود والضباط يتعثرون بعضهم على بعض، والمركبات تتصادم وتتحطم، والصياح والصراخ يتصاعد للسماء. بإختصار، كانت كارثة.

مرت بضعة شهور من التدريب، ثم ذهبنا لمشاهدة آخر بروفه. كان هناك القائد العام ونوابه وكبير الخبراء وعدد من القادة العسكريين. هذه المرة لم نسمع ولم نرى شيئاً – لا صوت السفينة وهي ترسى، ولا صوت الجنود والمركبات وهي تنزل … لاشيئ. ولما شقشق الفجر، إذا نحن محاطون بالكتيبة من كل ناحية، مدافعهم منصوبة ومصوبة، ومركباتهم فى مواقعها. أي أننا لو كنا العدو، لما أحسسنا بشيئ حتى أصبحنا محاطين. بإختصار- كان الأداء متقناً إلى درجة تسلب الألباب، كأنه عرض باليه من فرقة عالميه.

هذا مثال، وكانت هناك أمثلة أخرى أعادت لى ثقتى فى مصر وأهلها، وفى أن المصريين ليسوا أقل قدرة من غيرهم.

إستمرت تجربتى مع القوات المسلحة سنة وبضعة أشهر، وخرجت منها بعدة دروس:
1. تخلصت تماماً من فكرة أن الجيش لا يعمل فيه إلا فتوات لا تقبلهم الكليات المفيده. فقد قابلت فيه ضباطاً على قدر من الذكاء والمعرفة والحرفية تتشرف بهم أية مهنة.
2. السادات لم يكن “مهندس العبور” كما إدعى. فقد كانت القوات المسلحة قد بلغت قمة لياقتها (كما ذكرت فى مثال عملية الإنزال) قبل أن يكون هو فى الصورة ولو من بعيد.
3. لم يكن “ما أخُذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة” مجرد شعار، بل كان خطة عمل.
4. كانت حرب الإستنزاف حرباً حقيقية وضروساً، وما لم يُعلن عنها كان أخطر وأعظم مما هو معروف.
5. (وهذا أمر شخصي) إذا قمت بواجبك وأعطيت كل ما تستطيع، سيُرد لك الجميل: جاءتنى بعثة للدكتوراه فى أواخر ٦٨، وكانت القوات المسلحة مازالت تحتاج إلى خدماتى. لكن رئيس هيئة التدريب وافق على مضض على إنهاء تكليفى حرصاً على مستقبلى، (وكان له العذر لو رفض.).

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Farid Matta فريد متا

كاتب ادبي

‫34 تعليقات

  1. تاريخ شيق من منظور حي لهذه الفترة الحرجة في تاريخنا
    ياريت تفكر تكتب مذكراتك فهذا تاريخ يجب حفظه للاجيال و التاريخ!!!

  2. Yes Sir, Egyptians were the builders of the greatest civilization ever, The Temples and Pyramids shows how creative engineers they were and hard workers building the glory of Egypt, If you train them right and they believe in a cause they can do miracles like High Dam for instance, Nasser gave them the spirit and cause not Sadat, you gave your country when you were asked without calculating or expecting any gain, Proud of you Dr. Farid Matta.

  3. استاذى العظيم
    استمتعت كثيرا وأنا أقرأ ما سطرت.
    أسلوب سهل وبسيط ومنظم ومترابط كما تعودنا منكم دائما
    بارك الله فى عمرك ، كلامكم شهادة للتاريخ.

  4. اكاد اجزم ان الله سبحانه وتعالى قيض الرئيس السادات لكي يحقق على يديه النصر الوحيد للجيش المصري في القرن العشرين…. وليس هو فقط مهندس حرب اكتوبر.. بل هو ايضا ثعلب هذه الحرب…فكما نذكر انجازات حرب الاستنزاف…في عهد ناصر.. فلا بد ان نعطي الفضل لاهله في انتصار حرب اكتوبر…

  5. زكريات جميله ووطنيه من اهلها كما عاهدتك استاذا ومعلما وقدوه لم اراها الا بعض القليلون الشرفاء كنت وما زلت نعم الاستاذ ونعم المعلم ونعم القدوة الحسنه جازاك الله خيرا وبارك الله فيكم

  6. يبدو أنه وحيد أبويه لأنه تكليف فامضي سنه و بضعة أشهر….من كان يدخل الجيش وقتها لم يخرج قبل نهاية ٧٤
    خريجي الجامعات و الشعب العادي كانوا هم القوام الحقيقي لجيش أكتوبر فكما نسبت الحرب لمهندس العبور ثم بعد ذلك لصاحب الضربة الجوية ….ثم بعد ذلك الحديث عن ابطال الجيش من ضباط الحربيه….نسينا أن الشعب هو البطل

  7. دى أجمل ماسمعت من استاذى الكبير
    اول مرة فى حياتى أرى IC كان يدك فى المدرج أثناء التدريب الصيفي الحمدلله انى حلصت على درجة جيد جدا فى مادة circuit

  8. حضرتك تركت الخدمة الفعلية في اواخر ١٩٦٨ ، تصاعد وتيرة العمليات في حرب الاستنزاف كان في ١٩٦٩ و نصف ١٩٧٠ الاول ، الوطنية شئ عظيم ، و كلنا نحب وطننا ( أنا أعشق وطني ) لا شك لدي في قدرات الانسان ( مصري او غيره ) ، موضوعيا و للامانة التاريخية يجب ان نعرف نواقصنا لنتقدم ، أداء القيادة و الافراد الاقصى في حرب اكتوبر يقول اننا ذاكرنا العبور و المعركة المخططة صما ( كما يفعل تلامذتنا ) و لكن عندما تطورت المعركة الى مفتوحة الاحتمالات و كاملة السيولة تأثر الآداء . هناك مشاكل في المرونة و انسيابية القرارات و تحجر تعامل قيادات الاسلحة مع بعضها

  9. ايه الكلام الكبير الجميل ده يادكتور فريد والدور الراءع اللي قمت به علشان بلدك مصر ربنا يحميك ويعطيك الصحه ودايما مشرفنا ورافع راسنا
    ياحبيب الكل يافنان يادكتور فريد🌹🌷🌺🍒💐🌸❤️

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى