كتّاب

النيل وفىَ ىَ ىَ ىَ ىَ…


النيل وفىَ ىَ ىَ ىَ ىَ
الصيحة التى تقوم عليها مصر:
يقول نجيب محفوظ: مصر جاءت أولا ثم جاء بعدها التاريخ..
احتلت مصر بأرضها وشعبها وحضارتها مكانة سامية فى التاريخ القديم، يلمس هذا من يقرأ الإلياذة حين يأتى ذكرها مصحوبا بكل إجلال، ومن يقرأ هيرودوت فى زيارته لها، وما أظن أن قصص التوراة التى ذكرت فيها مصر ولا يثبتها دليل أثري واحد ليست إلا مماحكة فى هذا الوطن الكبير، كما وضع الرواة المسلمين حديثا مختلقا عن زيارة عمروبن العاص لمصر قبل الإسلام: “وجلوسه فى مدرج كبير يقذف فيه العرافون كرة، قالوا: إن من تقع فى حجره سيحكم مصر؟، وعندما وقعت فى حجر عمرو، تعجب الناس كيف يحكم مصر هذا الإعرابى “الجِلف”، المهم كانت هذه الحضارة كلها تعتمد على نهر النيل.
كان الناس فى القاهرة مع دخول الصيف يعيشون حالة من الترقب، فترتفع أسعار قِرَب الماء التى يحملها السقاؤون للمنازل والدكاكين، ويصبح التفاوت فى أسعار قرب الماء بين تلك الصالحة للشرب وبين المناسبة لغسيل الملابس وسُقيا الدواب، ضرورة اقتصادية، بعد أن جف الخليج وعز الماء وأصبح المشوار من قلب القاهرة لبُقَع المياة الضحلة والقليلة فى قلب مجرى النيل طويلا مرهقا.
فى هذا الوقت ومع بداية شهر مسرى “أغسطس” تنتظم نوبتجية الخفراء حول مقياس النيل الذى أقامه العباسيون فى الطرف الجنوبى لجزيرة الروضة، يبدأ الخفير نوبتجيته بنزول الدرج لينظر إلى الحد الذى غطته المياة على درجات المقياس، ثم يصعد ليطعم حماره، ويعد لنفسه كوبا من الحلبة أو يشوى “كوزا” من الذرة أو “زر بطاطا” على ركية النار الدائمة أعلى المقياس، وفى ختام النوبتجية ينظر إلى مستوى الماء على مدرج المقياس ثم ينصرف.
وعندما تغطى المياة الدرجة التى تكمل “الستة عشر ذراعا” ينطلق الخفير المسعود المُبخت جاريا وهو يصيح بأعلى صوته: “النيل وفى ى ى ى… النيل وفى يا خلق … النيل وفى يا ناااااااااس”.. وهنا يستبشر الناس ويتعانقون ويُكَبر المسلمون ويُصَلِب الأقباط، وتطلق النساء الزغاريد الحيانى من المشربيات والطيقان، ويصخب الأولاد ويلقي عليهم التجار من الدكاكين قطع العملة الصغيرة او التمر أو الحلوى، ويتناقل الناس الخبر في الدروب والحارات، ويظل الغفير المنطلق صائحا “النيل وفى” وتتفتح أمامه الأبواب حتى يقف أمام السلطان قائلا: النيل وفى يا مولانا.. ثم يسقط إعياءا، لينهض وقد أصبح من علية القوم، إذ يخلع عليه السلطان عباءه موشاة بخيوط الذهب، ويمنحه بضعة أكياس من الدنانير الذهبية، ويُقطعه إلتزام قرية كاملة قد يبلغ زمامها آلاف الأفدنة، وسرعان مايعد السلطان موكبه ليدهن مقياس النيل بدهن الزعفران الثمين، ثم ينزل في موكب عظيم في اليوم التالي “ليكسر سد الخليج”.. فينطلق الماء في الخليج ليسقي القاهرة.
هذا لأن تلك الصيحة تعنى أنه فى العام القادم ستكون هناك دولة عظيمة منيعة قوية “هى مصر” يظل سلطانها قويا مهابا يملك عشرات الآلاف من الجند، ولديه القدرة دفع رواتبهم وعلى شراء الأسلحة وصناعتها وتجديد القلاع والثغور وتظل المواكب السلطانية تجرى طول العام يحفها المشاعلية وحاملي النفوط والبيارق والطبول والمزامير، فتظل هيبة السلطان مرعية لدي الحكام والناس، ويظل الأزهر والكتاتيب يرتادهم الشيوخ والطلاب وتجرى عليهم المرتبات والجرايات والهبات ويظل النيل زاخرا بالمراكب الشراعية التى تنقل السلع والبضائع بين شمال الوادى وجنوبه، ويظل الناس يتزوجون وينجبون البنات والبنين، ويرتادون الحمامات العامة، وتظل الصنائع والفنون، ويظل البيع والشراء، وتبقى حركة العمران مزدهرة تبنى بيوت ومساجد ووكالات وأسبلة، كل هذا اعتمادا على خراج بلغ فى زمن عمرو بن العاص “اثنى عشر الف الف دينار” وزاد ونقص تبعا للظروف، واعتمادا على مئات الآلاف من الدنانير تحمل إلى الخزينة السلطانية كل يوم، فعند أى باب من أبواب القاهرة أو أبواب غيرها من البلاد يدفع الناس الدنانير للخزينة السلطانية، أمراة داخلة تحمل مشنة من الفجل والكراث والخضار، صياد يحمل قفة من أسماك النيل الصاحية، رجل يحمل قفص يبيع الكتاكيت، رجل يسوق عربة كارو تحمل بلاليص العسل الأسود أو صناديق الملوحة، او عربة خارجة من القاهرة تحمل أقمشة أو قباقيب او منتجات جلدية او حلوى كما يمر المحتسبون على المحلات والكاكين ليأخذوا منهم الضريبة المقررة كل أسبوع أو كل شهر.. حسب العرف الجاري…..
أما إذا لم ينطلق الخفير بتلك الصيحة العزيزة ومرت الأيام على ذلك يتحول ترقب الناس إلى توجس ثم هلع ثم رعب، وترتفع اسعار السلع إلى ان تختفي تماما، وتجف النباتات ويتبعها موت الحيوانات الصغيرة والطيور ثم تموت الحيوانات الكبيرة، وتختفى الأسواق المتنقلة، ويبحث الناس عن الجذور والأعشاب الجافة ليقتاتوا بها، وتكون المجاعة، التى تدفع الشيوخ الكبار إلى التسول وتدفع العفيفات إلى بيع انفسهن لقاء لقيمات، ولأن الغذاء هو المصدر الأول لمناعة الأجساد فسرعان ما تفتك بالناس الكوليرا والطاعون
ويمتنع السلطان عن دفع مرتبات الجند، فينزلوا من القلعة شاهرى اسلحتهم ليخطفوا مابقى من خبز وبضائع، ثم يبيعوا أسلحتهم ويتحولوا الى متسولين، ويأكل الناس الكلاب والقطط حتى الميتة منها، وتنتهي الدولة ويختفي النظام ويصبح الناس جميعا جوعى ومرضى على حافة الموت… إلى أن يعفو الله عنهم فيطلق النيل.. لتعود الصيحة الغالية: النيل وفى ى ى ى ى
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى