كتّاب

النبي طه…..


النبي طه..

كان وادي الخضر في الماضي السحيق مجرد طريق للسيل، وكانت السيول تهبّ إليه من الجبلين الشرقي والغربي.

جاء الخضر قادماً من الأعلى، ولكن أين هو ذلك الأعلى؟ هبط بمحاذاة السيل إلى أن افترقا. كان الخضر أول من سكن ذلك الوادي، ثم مضى في كل اليمن يبحث عن التائهين، يلتقطهم عند حلول الليل ويضعهم على مدخل الوادي فيضربهم النعاس ليلة أو ليلتين وعندما يفيقون يصبحون وكأنهم بلا تاريخ. مات أقدم التائهين ونسي الأحفاد القصة، قصة التكوين تلك. ثم مع الأيام حين استقرت الحياة غيّروا اسم واديهم إلى وادي السيل وأبقوا على دعسة الخضر. لا يريد أحد أن يعرف هذه القصة، فهي لم تعد حقيقة كما كانت في السابق. ولم يعُد الخضر يجيئ بالتائهين إلا ما ندر. وهؤلاء، كما حدث مع الحاج زُط ومع ذي القرنين، سيعيشون على الهامش ولن يستطيعوا اختراق المجتمع، ذلك أنهم مقطوعون من شجرة. حاول ذو القرنين، وقد استطاع بجده واجتهاده لملمة قصة الوادي من الأفواه التي كانت لا تزال تتذكر، حاول الدخول في الناس وأن يعثر له على زوجة ولكنه لم يفلح. سمع عن الشاعر الذي عاش في أعالي الوادي وكان يؤرخ للموت والميلاد بالشعر، مات وليس له زوجة ولا ولد. ذلك أن سكان الوادي نظروا إلى شجرته المقطوعة ولم ينظروا إلى أشجار ماضيهم.

كان القمر غائباً في الليلة التي فكّر فيها ذو القرنين بمضاجعة المواشي لأول مرة، وكان في مثل سن أحمد آنذاك. حاول أحمد ثنيه، وكانا ذاهبين للنوم في الطاحونة التي بنيت للتو. قال له أحمد إن حرباً جديدة ستقع وستكون هناك أرامل. وحدثه عن طعم الأرملة، وكيف أن رحمها الغاضب بمقدوره أن يبتلع أشياء لا تخطر على البال. قال له أن رحم الأرملة يركض داخل جسدها مثل المجنون، ولو غفلت عنه سيقفز إلى القرى وينهش الكلاب والقطط. أخبره عن أرحام الأرامل، قال إنها أعظم ما سيبقى على هذه الأرض عندما يضع كل شيء أوزاره.
“حتى قمر الخريف” قال أحمد.
“ما هو قمر الخريف؟ هو رحم من الماضي، يقال إنه رحم زوجة فرعون”. أضاف أحمد وأفزع صاحبه.

تماسك الرجل الخائف، ثم زمجر بنفاد صبر:
“إذا لم يخرج مائي الليلة فسينفجر بطني ويغرق الوادي يا أحمد”.

أراد أحمد أن يضحك في تلك الساعة ولكنه تراجع، فما من شيء مسلٍّ في مسألة الغرق. ثم نهره وقال إن عرش الرحمن يقفز من مكانه إن وضع الرجل أيره في فرج الحيوان. ولكن ذا القرنين رأى الأمر مثيراً أكثر من أي وقت مضى، وتخيّل عروشاً تتقافز بين السماء والأرض، والحيوانات تركض وتشتكي.
بقي الرجلان على حافة الصداقة، وسلكا طريقين مختلفين. توغل أحمد في الناس وصار منهم، اشترى أراضيهم ومواشيهم، ثم صار يغيثهم بالحبوب واللبن حين تبسط السحب البيضاء يدها على سماء الوادي وتأبى أن تزول. كان يفتي لهم ويقص عليهم القصص في مواسم الحصاد وشهور الشمس. أما ذو القرنين فبنى له كوخاً وحظيرة صغيرة لبعيره، وصار يخدم الناس من وقت لآخر، وتعلّم. أخذ علومه من كتب قديمة ومن الأفواه، ومن الترحال. بقي غريباً، وكلما صار أحمد رجلاً من أهل الوادي نأى عنه صديقه درجة. إلى أن اكتشف ذو القرنين الأسئلة، وصار يلقيها يمنة ويسرة ويعجز الخلائق. لقد صنع نصره الخاص، وكان يؤوب إلى كوخه مستريحاً إلى نفسه راضياً عن وضعه الجديد، فقد أصبح قادراً على دحرهم جميعاً عدا الشيخ أحمد. وكلما سمع رجلاً يردد بيتين أو ثلاثة من شعر أحمد استمع إليه ملياً ثم مضى كأنه لم يسمع شيئاً. وفي الغد يذهب إلى دعسة الخضر محمّلا بالأسئلة. وجد له مع الأيام موضعاً وصارت له هيئة مبجلة، رغم أنه بقي يمشي أمام جمله طيلة حياته، ولن يصير قط شيخاً. بقي ذو القرنين على الحافة، عجزت أسئلته العظيمة عن إدخاله إلى وسط الناس أو منحه امرأة. وفكّر بخصي نفسه، فقد شغله ذلك العضو كثيراً وفضحه في شبابه. لكنه تمهّل في قراره وخصى بعيره أولاً. ولما لاحظ أنه صار رخواً وجباناً عدل عن قراره تجاه نفسه وعاش مع ذلك الشيء ووجد له من وقت لآخر حفراً هنا وثقباً هناك من أنواع شتّى.
إلى أن جاء ذلك اليوم من شهر ربيع حين تناقل الناس قصيدة قالها الشيخ أحمد في مديح النبي، وكان أحمد قد ذكر اسم طه في القصيدة أكثر من عشر مرات حتى ظن الناس أنه يقصد شيخ القرية وكبيرها، وكان اسمه طه. وكان للشيخ طه دار كبيرة في أعلى الوادي، وقد دعا أحمد في الجمعة التالية للغداء في منزله وطلب منه أن يعيد القصيدة على الحاضرين فأعادها مراراً وتكراراً.

لما سمع ذو القرنين القصيدة، وكان أغلب الناس قد حفظوا منها البيت والبيتين، خطر في باله وهو يجلس في الدكان أن يطرح سؤالاً على الناس: كم عدد الأنبياء الذين كان اسمهم طه؟ لم يحصل على جواب، وتسامع الناس بالسؤال. التقاه الشيخ طه، وكان طه يتمشى بين الحقول وحوله رجاله، فاستوقفه وطلب منه أن يجيب عن سؤاله الذي أعجز الخلائق. وقف ذو القرنين ومن خلفه بعيره ورد على سؤال الشيخ بأدب جم قائلاً:
“اثنان من الأنبياء حملا اسم طه. الأول كان هو النبي محمد”
وتردّد ذو القرنين في الإفصاح عن اسم النبي الآخر غير أن الشيخ طه ابتسم ابتسامة لم يعرفها أهل الوادي منذ القدم، ومضى في طريقه وخلفه رجال أدركوا للتو من هو طه الثاني.

منذ ذلك النهار صار ذو القرنين رجلاً مهاباً يحبّه الشيخ طه وآل الشيخ طه وبعض النسوة في دار الشيخ طه والدور المجاورة لدار الشيخ طه. بيد أن كل تلك المحبّة لن تمنحه قط أنثى بلا فرو.

استعاد الوادي، كل الوادي، تاريخ الشيخ طه. وقيل إنه كان ولداً شقياً لأب صالح، وأنه ترك الوادي في صباه لأنه أحب ابنة كبير الشيوخ ولم يعرفوا له طريقاً. قيل إنه كان يمشي بين المنازل والغيطان كأنه الخضر، وكان الرعيان يدركون، بما لأرواحهم من شفافية، أنه مرّ ليلة أمس. ويومَ وقف على النهر وسأل قيل له إن ابنة كبير الشيوخ ستزف إلى ابن عمّها، فصرخ صرخة جعلت العروس، وكان اسمها مريم، تطير من الشبّاك. أخذتها الرياح السعيدة إلى النهر، وطارت معها الجن والملائكة ونساء الروم. منذ ذلك اليوم أصبح طه شيخ الشيوخ، وربما أكثر من ذلك بكثير. ولا تزال مريم تطير مع الملائكة ونساء الروم، تجمع حبّات المطر من السحب الكسولة، وتزاوج بين الأشجار. وفي ليالي الأعياد تسيل روح مريم، التي ماتت منذ زمن بالحمى، تسيل في مياه النهر وتتدفق معه حتى يبلغه منتهاه. ولا يعلم منتهى النهر سوى الله والجن. إنه لمن المحزن أن الشيخ طه – الذي أحب مريم كأنها شجرة وأحبته كأنه ريح – لم يفكّر قط بمعرفة أين ينتهي النهر. وبرغم أن هذه القصة باتت معروفة لكل الناس في الوادي إلا أن امرأة وحيدة فقط، امرأة جعداء وفطساء وسمراء، تجرأت وقالت إن الشيخ طه لم يكن يستحق كل ذلك الحب. أما باقي النسوة فكنّ يقلن إن تلك المرأة التي تطير مع الجن لم تكن قط جديرة بالشيخ طه، الشيخ الذي لفرط كرمه كان يفرش الأرض للغمامة. أما طه فكان يجلس إلى نفسه في الليالي حالكة السواد ويستمع إلى ذلك الصوت الذي لا يزال يهوي في روحه. تقول له مريم “أنت شجرة الخلد” ويقول لها “أنت المُلْك الذي لا يفنى”. يا لها من أيام لو عادت لما غفل طه عن مريم لحظة واحدة، ولمات معها بالحمى.

—-

مروان الغفوري
حرب الشيخ أحمد، دار الفارابي، بيروت، 2020

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫24 تعليقات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى