المصريون و المعرفة…


المصريون و المعرفة

لا يفصل أغلب المصريين بين التاريخ و الدين، أو بين اللغة و الدين، أو بين العلم و الدين، … . بل يؤمنون بأن الربط الوثيق بين الدين و كل شيئ آخر هو مصدر النعيم الذى يعيشون فيه.

على سبيل المثال – ها هو أستاذ فى الهندسة يؤكد أن اللغة العربية هي أغنى و أبلغ اللغات فى العالم. و يستند الأستاذ فى تأكيده إلى “حقيقتين” – أولاهما أن عدد الكلمات فى اللغة العربية أكبر منه فى أية لغة أخرى؛ و الثانية هي أن ٣ حروف عربية فقط، (ك، ت، ب،) تستطيع أن تعبر عن معانى مختلفة تحتاج اللغات الأخرى إلى كلمات متعددة لتوصيلها – مثل كتاب (book)؛ و مكتب (desk)؛ و مكتبة (library)؛ و ‘كتْب كتاب (marriage registration)’ …

هل قال الأستاذ ما قاله لأنه أجرى بحثاً إستدل منه على ذلك؟ لا! … بل قاله لأن سمو اللغة العربية على غيرها من اللغات هو عنده “معلومة” دينية معروفة بالضرورة و لا تحتاج إلى بحث. لكن ماذا يا ترى سنجد لو أجرينا بالفعل بحثاً و لو سطحياً؟

الحروف ك، ت، ب تشكل فى اللغة العربية ما يسمى ‘مصدر’. (المصدر هو فعل ماضي يتكون من ٣ حروف،) و تُشتق منه كلمات عديدة مثل كاتب، مكتوب، كتاب، … إلخ. هذا ليس شيئاً تنفرد به اللغة العربية، بل هو يستعمل فى كثير من اللغات الأخرى. فى اللغة الإنجليزية يسمونه جذر (root) – كلمة ‘come’ مثلاً هي جذر تتفرع منه نحو ٣٠ كلمة، منها ‘comely’; ‘becoming’; ‘comeuppance’ … إلخ. بالمثل – فى اللغة الروسية الفعل ‘ходить’ (و هو فعل المشي،) يشتقون منه عشرات الكلمات، … و هكذا.

بعض المعاجم ترصد المصدر و جميع مشتقاته تحت بند (entry) واحد، و بعضها يرصد كل كلمة بمفردها بصرف النظر عن المصدر. لذلك إذا بحثت عن عدد الكلمات فى اللغة الإنجليزية، مثلاً، فستجد إجابات تتراوح بين ٢٠ ألف و ٨٠٠ ألف (حسب الطريقة التى يستعملها المعجم.) و كذلك الحال فى العربية و البنغالية و أية لغة أخرى. إذا كان الباحث عقلانياً، فسيتفهم آليات التباين. أما إذا كان “واقعاً تحت التأثير”، فسينتقى من النتائج ما يروق له ثم يتصايح بأن هذه اللغة أو تلك فيها عدد كلمات أكبر، لذا فهي مُنزَلة من السماء.

ماذا عن تعدد المعانى؟ أحياناً نجد أن كلمة عربية واحدة، كلمة ‘مكتبة’ مثلاً، قد تعنى library أو قد تعنى bookstore. هذان معنيان مختلفان، و لن تعرف أيهما المقصود إلا من السياق. كذلك كلمة ‘مكتب’ قد تعنى desk أو office، أو bureau. هذا الغموض ليس من علامات بلاغة اللغة بل من دلائل ضعفها. و لا تنفرد اللغة العربية بهذا الضعف، بل نجده أيضاً فى اللغات الأخرى – فى الإنجليزية نجد ما يسمى homonyms، مثل كلمة ‘light’ التى قد تعنى خفيف الوزن، أو فاتح اللون، أو ضوء، و لا تعرف المقصود إلا من السياق.

نستخلص من هذا أن اللغة العربية، مثلها مثل غيرها من اللغات، هي منتوج بشري فيه نواحى ضعف و نواحى قوة. وهذا ليس عيباً فيها ولا هو ميزة ترفعها فوق غيرها (*).

لا يحتكر المصريون فكرة ربط اللغة بالدين. إليكم فى هذا الصدد قصة طريفة من التاريخ الأمريكي: كانت ميريام فرجوسون (Miriam Ferguson) تشغل منصب حاكم ولاية تكساس فى العشرينات من القرن الماضي. وكان هناك وقتها جدل حول تعليم اللغة الإنجليزية للأطفال من أصل مكسيكي. و أدلت السيدة ميريام بدلوها فى النقاش: “طالما اللغة الإنجليزية كانت مناسِبة للسيد المسيح، إذاً فهي مناسِبة أيضاً لأطفال تكساس.” (**)
__________________________
*) ضعف اللغة العربية يتجلى بوضوح صادم فى المجالات العلمية و التكنولوجية. ليس ذلك لأسباب غيبية أو إلهية، بل لأن المتحدثين بها لم يشاركوا فى خلق تلك المجالات، و إقتصر دورهم على محاولة إستيعابها بعد إستتبابها. فى بعض الحالات أخذوا المصطلح الأجنبي كما هو، مثل ‘راديو’ و ‘ترانزستور’؛ و فى حالات أخرى حاولوا بدائل لم تنجح مثل “شاطر و مشطور و بينهما طازج.”
**) If the King’s English was good enough for Jesus Christ, it should be good enough for the children of Texas.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version