كتّاب

الرابعة فجرا، كان الزمن. كانت سماء ألمانيا أقرب ما تكون. ولم يكن يحرس المدينة سو…


الرابعة فجرا، كان الزمن. كانت سماء ألمانيا أقرب ما تكون. ولم يكن يحرس المدينة سوى فتاة روسية اصطحبت جدّها المريض إلى الطوارئ ووقفت خلف الباب الزجاجي.
بعد وقت قصير اتجهت إلى الخارج وبحثت عن الفتاة. سألتها بلغة ألمانية رسمية:
أنت حفيدة السيد تولستوي؟
“تقصد السيد تولستوف”؟
“أقصد السيد تولستوف، سامحيني”
“لا عليك، ولكن يبدو أنك تحب تولستوي كثيراً”.
أردت أن أقول لها:
بل أحب بوشكين، الذي قال عنك:
“كان جمالها البارد يحرس شتاء روسيا”
تبادلنا الكلمات القليلة حول الجد، وغادرت إلى الباب الخارجي للمشفى. وجدت ممرضة ألمانية تدخن وتسألني: هل توقفت فعلاً عن التدخين؟ هززت رأسي “نعم” وانشغلتُ بقراءة بعض الرسائل التي تصلني على واتس أب.
ضغطت على زر اتصال، وكان الرقم مغلقاً. جربت شخصاً آخر، كان مغلقاً. أجاب الشخص السادس:
ـ أهلاً مروان، كيفك، تذكرتك من شوية؟
ـ “طمني عليك، أنت فين الآن”
ـ أنا في الجبهة، في الربيعي. كانت ليلة صعبة جداً، اعتقد إنهم يئسوا مننا خلاص.
ـ “حدد لي مكانك بالضبط فين”
ـ في المقدمة قريب من المصانع، عاد الرشاش الألماني حقي حامي ـ جالس أبرده. هو اللي ذكرنا بك هههه.
ـ “إيش تعمل الآن، طيب؟”
ـ اسمع حسين الجسمي بصوت فرح يوسف.
ـ “والله إنت دماغ”
ـ خسرنا عرفات دماج يا مروان، الباقي سهل. خليها على الله. أمس نمت دقائق وشفته بالمنام يسألنا عادكم تتذكرونا.

بحثت عن شخص آخر في مفكرتي. صار يبيع كروت الشحن في الجبهة. قال إنه يحرس الحب، ويمنح المقاتلين الشجاعة. في ليلة كتب لي، عندما قلتُ أنه أنت بطل روائي:
“في الليل، ونحن في الجبهة، تأتينا قذائف الحوثيين من الأمام وتأتي رسائل الحبيبات من الخلف.”

باغت ضابطاً صغيراً برسالة، فرد باختصار: كل شيء هادئ في الجبهة الغربية. سألته: تعرف إريك ماريا ريمارك، فكتب لي بعد يوم كامل: لا والله، بس شكله ألماني.
كتب ريمارك روايته الأشهر “كل شيء هادئ في الجبهة الغربية” عن تجربته في الحرب الأوروبية العالمية بالقرب من هولندا، في مكان ما بالقرب من المدينة التي أكتب منها الآن. في الرواية يقتل رجلٌ رجلاً آخر ثم يستخرج أوراقه ويقلبها ويكتب فيها إلى زوجة القتيل، معتذراً وحزيناً ومكروباً. يعيد الأوراق إلى بنطال القتيل ويمضي.

من الأفضل أن لا تهاتف الضباط في الحرب، إنهم لا يكفون عن العويل. خالفت القاعدة وتحدثت إلى ضابط سرعان ما قال لي:
ـ رأيت آخر طائرة إمداد فوق وادي الضباب قبل أربعة أسابيع.
ـ “وماذا قال لكم الرئيس البارحة، أحدكم تحدث إليه؟”
ـ “لا أسمعك جيداً، أنا في الجبل، الدنيا ريح. هادي كلم الفندم، كان محبِطاً، لا فائدة. لا فائدة. لكن لا تكتب هذه الأمور، لن يتغير شيء. يقتلني الخوف على الشبان في المقدمة، أنا قائدهم لكنهم أصحابي”

قبل يومين أخبرني أحدهم بفخار “أوباما معنا” فضحكت. تمهل قليلاً، ثم قص عليّ:
“واحد من أخدام الضباب بطل وشجاع. حتى زوجته حملت الآلي وعملت نقطة في حذران. سميناه أوباما”.
سألته “يعني كلكم في الجبهة؟”
فرد علي بكلمات ناقصة، أكملتها من عندي:
“أيوه، إحنا مثل الضالع، كلنا على قلب واحد، مفيش بيننا خونة، حتى اللي كانوا يروحوا السعودية يعملوا سطوا رجعوا واشتغلوا مع المقاومة.”

عدت إلى الداخل، كانت الفتاة الروسية تجلس في انتظار الطبيب.
شرحت لها الحالة العامة للجد. قلتُ لها من الأفضل أن يبقى في المشفى لأيام. فابتسمت ببطء. ما إن اتمت ابتسامتها حتى فهمتُ كلّياً لماذا انهزم الأتراك أمام الروس. “هل تسمح لي أن أعطيك بعض المعلومات المهمة عن جدي” سألتني، فقلت لها: سيكون رائعاً. راحت تحكي بألمانية نقية استطاعت أن تغنّجها على نحو مذهل. تدفقت الأسئلة في رأسي: لماذا اضطرت شخصيات تولستوي الارستقراطية إلى الحديث بالفرنسية؟ الفتاة الروسية تستطيع أن تستخرج الموسيقا من الأحجار. شكرتها، وتمنيت لها نهاراً سعيداً، وفعلت هي كذلك.

نهاركم سعيد..

م. غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

‫29 تعليقات

  1. جميلة .. لكنها ليست بجمال قلمك المعهود .. .. أعجبتني في الرواية يقتل رجلٌ رجلاً آخر ثم يستخرج أوراقه ويقلبها ويكتب فيها إلى زوجة القتيل، معتذراً وحزيناً ومكروباً. يعيد الأوراق إلى بنطال القتيل ويمضي.

  2. بقراء كتاباتك واختي الكريمه حطت لي الفطور على الطاوله فأتى ابنها وكب الشاي والقهوه والخبزه على الارض وحاشا لله لم انتبه له
    حتى خرجت امه تصيح فوقي

  3. ﻓﺎﺑﺘﺴﻤﺖ ﺑﺒﻂﺀ. ﻣﺎ ﺇﻥ ﺍﺗﻤﺖ ﺍﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻓﻬﻤﺖُ ﻛﻠّﻴﺎً ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺍﻧﻬﺰﻡ ﺍﻷﺗﺮﺍﻙ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺮﻭﺱ.

    روعة ف الإبداع سلمت اناملك يا دوك

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى