مجتمع الميم

الحمد لله أنا مثلي – My Kali Magazine


in English

أجرى المقابلة: خالد عبد الهادي
تصوير: تيريزا سواريز
تلبيس: مروى آسيرجي
مكياج: هشام عباسة 
مساعد التصوير: MaxX
تفريغ صوتي: MaxX
كتابة وتحرير: الايزا ماركس
ترجمة: هبة مصطفى
تصميم الغلاف: Morcos Key
تركيب وتصميم الغلاف: علاء السعدي
هذا المقال من عدد عقدة الواوا

يتمتع الأدب والكلمة المكتوبة بالقدرة على إيصال السمات الحميمية للحياة اليومية وتأملات كتّابها وكاتباتها وتأملاتهم/ن ورغباتهم/ن، وتتمتع بالقدرة على تسليط الضوء على القوى التي تحد من الطريقة التي نعيش بها حياتنا وطرق مواجهتنا لها.

يحقق الكاتب وصانع الأفلام المغربي عبد الله الطايع الأمرين معاً من خلال مجموعة أعماله المتنوعة، وقد استخدم الطايع منصته ليدلي بدلوه في النقاشات الدائرة حول كراهية المثلية والاستشراق؛ نظراً لتأثره الشديد بطفولته ونشأته في مدينة “سلا” وعلاقته بالمجتمعات المغربية والفرنسية منذ أن غادر المغرب إلى فرنسا في عام 1998 وفقده للحب وعثوره عليه على طول الطريق، وقد عرّفت أول روايتان له، “مغربي أنا” (2000) و”أحمر الطربوش” (2005) – وما حظيتا به من اهتمام إعلامي فيما بعد – الجماهير الناطقة بالعربية والفرنسية بعمله ومقالاته المخاطبة للجمهور التي أعطت دفعة أكبر للخطاب الدائر حول المثلية في المغرب وسط السياقات الاجتماعية المتغيرة في مطلع الألفية، وقد تُرجمت رواياته التسعة إلى لغات عدة وحظيت باحتفاء شديد في المسابقات الأدبية الدولية، كما اُختير أول فيلم من إخراجه، “جيش الخلاص” (2013) (المأخوذ عن روايته الصادرة في عام 2006 بالاسم نفسه)، للعرض في العديد من المهرجانات السينمائية المستقلة المرموقة.

يتحدث الطايع في هذه المقابلة المطولة مع خالد عبد الهادي عن علاقته بوالدته، والتعاون والجدل الإعلاميين، والثقافة الشعبية، وكيف أثر نضجه على فهمه للعلاقات الرومانسية وغيرها، وقد حُرّر نص المقابلة للاختصار.

Pearl necklace; Au Printemps Paris. White top; Saint Laurent. Baby blue suit; Vintage Dior. Heel boots; ASOS. Photographed by Teresa Suárez. Styled by Marwa Asserraji. Makeup by Hicham Ababsa.

لنبدأ، حدثنا قليلاً عن نفسك وعن خلفيتك.
أحب أن أفكر في نفسي على أنني “وِلد مِباركة” وابن أمي رحمها الله؛ ففي سنوات طفولتي ومراهقتي عندما كنت أدخل في شجار أو أقع في مشكلة أو عندما كان الناس يتضايقون مني أو ينتقدونني، كان هناك دائماً من يقول “هذا ابن مباركة”، وكانت هذه الجملة كفيلة بحمايتي دائماً.

كنا نسكن في حي يُسمى “السلام” في مدينة “سلا”، وكان على والدتي أن تكافح بوجه الفقر لندخل المدرسة وليكون لنا بيت، ولهذا كانت تصيح في الناس وتتجادل معهم. كانت امرأة قوية، ولم تضطر أبداً للدفاع عني بسبب مثليتي؛ فقد كان يكفي أن يُعرف أنني ابنها.

يا لها من شخصية من قوية! هل كان بوسعك التحدث معها بانفتاح حول ميولك؟
أنا متأكد من أنها كانت تعرف ذلك؛ فقد عشنا معاً 25 عاماً، فأنا الابن الثامن من بين تسعة أبناء، أولنا هو شقيقي الأكبر ثم ست فتيات ثم أنا وشقيقي الصغير؛ فقد أراد أبواي ابناً آخر وكنت أنا هذا الابن.

لكننا لم نتحدث عن الأمر مباشرةً إلا في عام 2009 عندما نشرتُ مقالاً بعنوان “شرح المثلية لأمي” في مجلة مغربية تصدر باللغة الفرنسية تُدعى “تيل كيل” (TelQuel) وعلم أشقائي وشقيقاتي بالأمر وتحدثوا عن “العار” الذي جلبته لها، وجعلوها تتحدث معي على الرغم من أنني كنت أعيش في فرنسا، وواجهتني بالأمر لتخبرني بأنها لم تقل أبداً أنني لست ابنها (كما يمكن أن يكون المقال قد ألمح) وبأن أشقائي وشقيقاتي يقولون كذا وكذا، وسألتني “لمَ قلتَ ذلك؟” فأنهرت بالبكاء لأن الأمر كان ضاغطاً للغاية وكنت أتصبب عرقاً وشعرتُ بأنني عار وبأن العالم بأسره يمكنه أن يراني.

أخبرتني بالأشياء التي كان يقولها الناس وسألتني عما إذا كانت صحيحة، كما بدا صوتها وكأنها كانت تبكي، وقالت لي “أنت من ذهبت إلى فرنسا وتحدثت عن هذه الأشياء، لكننا نحن من سنواجه المشكلات هنا”، وقد فهمت وجهة نظرها؛ فقد كانت هي وأشقائي من تعرضوا لكراهية المثلية التي كانت موجهة ضدي، لكنها لم ترد قطيعتي.

عندما أخبرتها بأنني لم أكن أتحدث عنهم بل عن المجتمع، كان ردها “لطالما أخبرتك بأننا لسنا مثل الآخرين”، ولم أفهم ما قصدته حقاً إلا بعد وفاتها؛ فالمجتمع الذي وُلِدت، ونشأت، وعاشت فيه لم يستحق الاعتراف بحقيقتنا، فقد كان رأيها أننا متى أخبرنا أسرتنا، أو مجتمعنا المحلي، أو مجتمعنا العام بحقيقة أنفسنا، فإنهم يستغلون ذلك ضدنا لإقصائنا، وقد أخبرتنا بأنه لا يمكن الوثوق بالناس، وهكذا شقت طريقها عبر الفقر والمجتمع المغربي وواصلت السعي إلى تحقيق أحلامها، بينما بعض الناس في مجتمعها لم يفعلوا/ن شيئاً في حياتهم/ن سوى الحديث عن الآخرين، ولم أفهم هذا إلا بعد وفاتها.

Black silk cape, head-piece, black pants; LANVIN. Tights worn; DIM. Leather heeled boots; System. Photographed by Teresa Suárez. Styled by Marwa Asserraji. Makeup by Hicham Ababsa.

هل كانت هذه خطوتك الأولى نحو التحدث عن ميولك على الملأ؟
تحدثت عن ميولي لأول مرة في المجلة ذاتها، “تيل كيل”، في كانون الثاني/يناير 2006، حيث أجرت المجلة مقابلة معي في المغرب بعد نشر كتابي الثاني “أحمر الطربوش”، وسألوني عما إذا كنت أريد التحدث عن مثليتي في المقابلة فوافقت، وعلمت أنني سأواجه العواقب، لكنني كنت لأخون نفسي وقتها إذا لم أذكر الأمر.

وفي شهر شباط/فبراير من العام نفسه، نشرت جريدتان مغربيتان – الأيام والجريدة الأخرى – مقابلين مطولتين معي باللغة العربية، وتحدثت عن كل شيء، مُصراً على الإشارة إلى أنني “مثلي” لا “شاذ جنسياً”، وحاولت شرح نفسي بطريقة صادقة وعملية قدر الإمكان، مُبسّطاً كل شيء وشارحاً وموضحاً إياه.

غيّرت هذه المقابلات صورتي في المغرب، ويرجع هذا بدرجة كبيرة إلى كونها كانت باللغة العربية؛ فلم تكن هناك مشكلة عندما نشرتُ أعمالي بالفرنسية أو تحدثتُ عن الأدب والكتابة، وكان الناس يحبونني قبلها؛ فقد كان لديّ برنامجان تلفزيونيان في فرنسا على قناة “تو إم” (2M) وكانوا يعتقدون أنني شاب لطيف يتحدث الفرنسية بطريقة يفهمونها، وليست “برجوازية” أو متغطرسة، لكن بعدها، بدأت المشكلات والفضائح بالظهور؛ فقد استخدم “رشيد نيني”، وهو أحد الكتاب المعروفين في جريدة “المساء” الشهيرة، عموده اليومي لمهاجمتي وشيطنتي، وقد كانت لديه قاعدة جماهيرية ضخمة باعتباره واحداً من أشهر الصحفيين في أنجح جريدة، وكان ينتقد النظام الملكي والحكومة، لكنه كان شخصاً تقليدياً يهاجم أشخاصاً بعينهم/ن، وقد ظن الناس أنني لم أكن خائفاً لكني كنت كذلك.

هبّت عاصفة إعلامية أخرى عندما نشرت مجلة “تيل كيل” صورتي على غلافها في عام 2007 تحت عنوان “مثليون ومثليات رغم العقبات والصعاب” مع تحقيق صحفي من عشر صفحات، وفي عام 2009، نشر وزير الاتصالات بياناً أدان فيه الأشخاص الذين/اللاتي يتحدثون/يتحدثن عن “شذوذ” المثلية وأنه لن يتوقف عن محاربتهم/ن، وقد فكرت في كتابة خطاب مفتوح، لكنه لم يكن جديراً بذلك؛ فلن يتذكره التاريخ، ولهذا رددت بطريقة غير مباشرة بنشر مقالتي “شرح المثلية لأمي“.

Black silk cape, head-piece, black pants; LANVIN. Tights worn; DIM. Leather heeled boots; System. Photographed by Teresa Suárez. Styled by Marwa Asserraji. Makeup by Hicham Ababsa.

هل واصلت كتابة الكتب في هذه الفترة؟
نعم، فقد كانت مقالاتي عفوية أكتبها بينما أؤلف كتبي، فقد غادرت المغرب في عام 1998، وأنا في الخامسة والعشرين من عمري، للالتحاق ببرنامج للدكتوراه في الأدب الفرنسي في جامعة السوربون، وقد كانت أمي مستاءة عندما أخبرتها بأنني سأغادر البلاد، لكنها تفهمت أن عليّ فعل ذلك وساعدتني في تجهيز حقيبتي واصطحبتني إلى محطة القطار في الرباط، وخلال هذه الفترة، كنت أحاول كسب عيشي والاعتياد على الحياة في الغرب فحسب؛ فلم أكن أجني المال ولم يكن لديّ دعم مالي، ولم يكن لديّ سوى القدرة على الكتابة والحفاظ على عزيمتي؛ فنشرت روايتي الأولى “مغربي أنا” في عام 2000 وروايتي الثانية “أحمر الطربوش” في 2005.

يضم الكتاب الثاني مجموعة من القصص القصيرة عن حياتي في المغرب وجزء من حياتي في باريس، وفي إحداها، تحدثت عن عدم امتلاكي لمرآة حقيقية عندما كنت صغيراً؛ فلم يكن لديّ سوى واحدة صغيرة تشبه “التابلوه” ويمكن تحريكها بسهولة، وقد كان والدي يستخدمها لحلاقة ذقنه ثم إحدى شقيقاتي لوضع الماكياج ثم شقيقي، وكنت أنظر إلى نفسي فيها عارياً، وقد كتبت عن رؤيتي لنفسي في المرآة ذاتها وخوفي من أن تراني أسرتي على هذه الحال، وتحدثت عن مثليتي بطريقة غير مباشرة بقول إنني لم أشعر بالانتماء، وقد نُشر الكتاب لأول مرة بالفرنسية في المغرب عبر دار “منشورات طارق”، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الطباعة في المغرب كانت أرخص ومتاحة بسهولة، واشتراه الناس بسبب الدعاية الكبيرة، حتى بعد المقابلات.

Scarf: Abdellah’s own. See-through top: Saint Laurent. Low waist jeans: Urban Outfitters. Heel boots; ASOS. Photographed by Teresa Suárez. Styled by Marwa Asserraji. Makeup by Hicham Ababsa.

بصفتك شخص يعمل في مجال الإعلام كثيراً، كيف تستخدم هذه المنصات صوتك أو صورتك؟ فأنا أشعر أن وسائل الإعلام في المنطقة تستخدم المثلية لدعم أجنداتها السياسية أو خلق ضجة، وهنا، في البلدان الغربية مثل فرنسا، يستخدم الإعلام الكويريين/ات العرب لخدمة أجندات عنصرية أو معادية للإسلام أو تشي بشيء من “الهرمية الثقافية”.
في الواقع، أعتقد أن وسائل الإعلام المغربية وقفت بجانبي قبل النشر وبعده، وربما كان السياق هو ما جذب وسائل الإعلام لي؛ ففي الفترة التي أعقبت وفاة الحسن الثاني في عام 1999، كان هناك الكثير من التكهنات حول ميول خليفته، وقد كانوا في انتظار شخص مثلي أنا، شخص يجسد الموضوع للتحدث عنه بصورة مباشرة، وقد شهدت هذه الفترة أيضا ظهور الجماعات الإسلامية، وفي عام 2005 أو 2006، هاجم طلاب إسلاميون في جامعة فاس طالباً آخر سمعوا أنه كان مثلياً، حيث ذهبوا إلى غرفته وأخذوه إلى الخارج لإخضاعه لمحاكمة ووشوا به لأهله، وانتشرت القصة على نطاق واسع، وأعتقد أن الناس شعروا بالتعاطف مع هذا الطالب المثلي الذي تعرض للاختفاء على الرغم من رفضهم  لمثليته الجنسية، وكانت هناك فضيحة أخرى في عام 2004 في مدينة تطوان، عندما استمتع طلاب مثليون بارتداء ملابس نسائية في إحدى حفلات عيد الميلاد في مدينة مجاورة، حيث اشتبه رجل في أنهم مثليون وطلب منهم ممارسة الجنس معه، وعندما رفضوا توجّه إلى الشرطة وأُلقي القبض عليهم، وأدى هذا إلى فضيحة أخرى عندما تبين أن بعضاً منهم كانوا أبناءً قُصّر لسياسيين مهمين، وأُطلق سراحهم بعد ذلك بفترة وجيزة.

لهذا السبب، كان بإمكاني التحدث والكتابة بعاطفة وتعاطف عن مجتمع الميم، وقد كان جلياً أن الجيل القادم من الكويريين/ات في المغرب كان يعيش في المجتمع المغربي ويستكشف طريقة حياته بطريقة مختلفة، فعلى سبيل المثال، في عام 2007، نشرت جريدة “الصباح” مقابلة مطولة من صفحتين على مدار أربعة أيام مع الناشط الشاب “سمير بركاشي” عن عمله.

عملت في عام 2006، في الوقت نفسه تقريباً، على إنتاج مجموعة من المقابلات مع الفنانة المصرية “روبي”، التي كانت تواجه انتقادات هي أيضاً، فكيف حدث ذلك؟
أعتقد أن أحدهم سمع عني في المغرب وتحدث مع مجلة “باريس ماتش” (Paris Match) الأسبوعية التي كانت تنشر رؤية دولية كل شهرين، ولم أكن ‘معروفاً’ في فرنسا بعد، فاتصلوا بي لعمل عدد عن المغرب، مع التركيز على الشباب، والوجوه الجديدة، إلخ، فأجريت ثلاث مقابلات وساعدتهم في إعداد العدد، الذي – عندما أنظر إليه الآن – أجد أنه كان مليئاً بالكليشيهات. 

غلاف عدد كانون الأول/ديسمبر من مجلة “باريس ماتش موند” تظهر فيه الفنانة المصرية روبي التي التقط صورتها سيباستيان ميك، وأجرى المقابلة معها وأخرجها إبداعياً عبد الله الطايع وصورة جماعية يظهر فيها، من اليمين إلى اليسار، المصور الفرنسي سيباستيان ميك، وروبي، وعبد الله الطايع، وابن عم روبي، وشاب كان يعمل مع شريف صبري.

سمعتهم يتحدثون عن عدد مصري وكنت أعرف القاهرة جيداً، فأخبرتهم عن “روبي” وعن كل شيء حدث حولها منذ عام 2003؛ ففي ذلك الوقت، كانت مادة للقيل والقال وكان الناس ينظرون إليها بازدراء، لكنني فهمت من هي كشخصية وفنانة محترفة، وقدّرت وجودها كثيراً، ولا بد أن تكون كويرياً/ة من المنطقة لتفهم ذلك، وأعتقد أننا ندافع عن نجمات مثل “روبي” عندما يتحدث الناس بالسوء عنهن، ولم يكن أحد يكتب عن هؤلاء الفنانات، أو نسويتهن، أو مواقفهن الاجتماعية أو عن مدى تمثيلهن لزمنهن، وأشعر أن الكويريين/الكويريات يفهمون/ن رسائلهن وكلماتهن كما لو أنها كانت مكتوبة لهم/ن؛ فهنّ يعطوننا الأمل.

لهذا، أرسلوني إلى مصر، وساعدتني الفنانة “سميرة سعيد”، التي كنت على تواصل معها عندما أجريتُ مقابلة معها في وقت سابق، في الحصول على رقم “شريف صبري” مخرج كليب “يوم ورا يوم” ومدير أعمال “روبي” في ذلك الوقت، وعملت لثلاثة أيام على المقابلة، حيث ذهبت إلى منزلها وخرجنا لاحتساء القهوة، ثم أجرينا جلسة التصوير. كان الأمر رائعاً وكانت الصور جديدة وعلى طبيعتها، وتطرق المقال إلى أشياء أعمق من حياتها الشخصية وفنها، ربما لأنها شعرت أن بإمكانها الوثوق بي، فتحدث بانفتاح عن طفولتها وعن رغبتها في تحقيق نجاح مدوٍ آخر دون مشاركة “شريف صبري”، وعندما رأى “صبري” مدى حبي لها، طلب منا إجراء مقابلة تلفزيونية معاً للتحدث عن ألبومها الجديد “مشيت ورا إحساسي”.

Coat; Vintage, stylist’s own. Dress and ring; Saint Laurent. Photographed by Teresa Suárez. Styled by Marwa Asserraji. Makeup by Hicham Ababsa.

عندما يفكر الناس فيك وفي عملك، فإنهم/ن غالباً ما يفكرون/يفكرن في الأدب، والصحافة، والأوساط الأكاديمية، لكن لك جانب آخر يحب الثقافة الشعبية والترفيه.
تجتمع كل هذه الأشياء معاً، ففي بداية روايتي “سوداوية عربية” (2008)، يغادر البطل الشاب المدرسة الثانوية ويركض إلى منزله ليشاهد مسلسله المفضل “حكايات هو وهي” بطولة “سعاد حسني”، وفي الرواية، يشرح سبب هوسه بها، والشغف الذي أشير إليه هو الشغف ذاته الذي أحصل عليه من هؤلاء الفنانات، والأشخاص الذين يتدخلون في حبه لـ “سعاد حسني” هم/ن ذاتهم/ن من لا يفهمون/يفهمن المشاعر التي تثيرها فينا هذه الأغاني، لكن عندما تكون/ين في الثانية عشرة من عمرك، فإنها تساعدك على العيش، وقد كان من الرائع وجودهن كجزء من حياتنا؛ فلم يكن ثمة أحد مثلهن.

حتى وإن لم تكن المواقف السياسية لهؤلاء النجمات عصرية، فإننا نفهم إنهن مضطرات إلى اتخاذ هذه المواقف في العلن لأنهن يردن الاستمرار في الرقص وصنع الموسيقى.

Scarf; Balenciaga. Pearl necklace; Au Printemps Paris. White top; Saint Laurent. Baby blue suit; Vintage Dior. Heel boots; ASOS. Photographed by Teresa Suárez. Styled by Marwa Asserraji. Makeup by Hicham Ababsa.

هل يوازي تقدير هذه الشخصية الشابة لفن سعاد حسني حياتك أو كيف توصلت إلى جنسانيتك أو تعبيرك الجندري؟
لا أتذكر متى أدركت أنني مثلي، لكن أظن أن أول “تذكار” في حياتي كان عندما ألبستني شقيقاتي ملابس نسائية ووضعن لي المكياج ورقصت لهن، وربما كانت هذه واحدة من أسعد لحظات حياتي وبداية حياتي كراقص شرقي، ولست أعرف ما الذي يدفع بعض الناس الذين يعيشون/يعشن تحت سقف واحد إلى تحرير أنفسهم/ن فجأة من جميع القيود والمعايير الجندرية أو إقناع أنفسهم/ن بأن فعل ذلك يجلب لهم/ن السعادة، لكن بالنسبة لي، بصفتي مثلياً، كان من الواضح أنني كنت مرتاحاً ولم أشعر بالخجل؛ فأنوثتي جزء مني، وكانت الأنوثة مهمة لي ولشقيقاتي وكنّ سعيدات لأنني شقيقهن.

نشأتُ في بيئة لم يكن فيها معايير جندرية؛ فلم يكن هناك فرق كبير بيني وبيني شقيقاتي، وفي البداية كانت أسرتي سعيدة بهذه “الانسيابية الجندرية”، لكن عندما أصبحت مراهقاً، بدأ الناس في الحي يضايقونني، ووقتها كنت في التاسعة أو العاشرة، وكان العنف ضد الأطفال مشكلة، فأنا أتذكر ضرب زوج شقيقتي لي قائلا “تصرف كرجل!”، وفي وقت ما، حاولتُ الانتحار وفهمت أنه يتعين عليّ إخفاء أنوثتي تماماً، وأنا لا أعرف كيف كانت واضحة إلى هذا الحد للآخرين، لكني شعرت أنني فقدت جزءاً من نفسي.

كنت صبياً مثلياً أنثوياً وكانت هذه حقيقتي، وكنت سعيداً بها وكذلك شقيقاتي، ولا تزال هذه الذكريات تظهر في كتاباتي، والحمد لله إنني مثلي، لأنني سعيد في أعماقي بمثليتي، بغض النظر عن بؤس مجتمعنا أو عنفه، وحوّلت هذه التصورات التي يربطونها بالجحيم والعقاب إلى شيء جميل، وصنعت هذه السعادة بكوني صادقاً بشأن حقيقتي منذ أن كنت طفلاً.

Red Jacket and pants; LANVIN. Heel boots; ASOS. Blue sunglasses; Vintage Chanel. Black top; Vintage, Stylist’s own. Photographed by Teresa Suárez. Styled by Marwa Asserraji. Makeup by Hicham Ababsa.

كيف ترى أن تجربتك مع تقبل جنسانيتك قد أثرت على علاقاتك، ورومانسيتك، ودينامياتك؟
تساعدني تجربتي على مواصلة الحياة، وإن كانت أحلامي بالعثور على الرجل المناسب لم تتحقق بعد؛ ففي كل مرة أعيش فيها قصة حب أجد نفسي مضطراً إلى الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها وأكون غير قادر على فهم شركائي أو أشعر بأنهم يحاولون امتلاكي، وأحياناً أتساءل عما إذا كنت قد ورثت نزعاتي عن أمي، وهي شيء لا أحبه في نفسي كثيراً.

لم أستطع أبداً الوثوق بأي أحد، وهذا ناتج عن ماضيّ، والآن، أنا في الثامنة والأربعين من عمري وأشعر بأنني لم أحرز أي تقدم، وقد وجدتُ أنه يجب أن أكون على حقيقتي لأبدع، وبمرور السنوات أصبحت هذه الاستراتيجية مهمة لي، والآن أشعر أنني لن أكون قادراً على الدخول في علاقات حتى وإن كانت ظروفي مناسبة لذلك. يبدو الأمر كما لو أني نسيت كيف أفعل هذا.

تبدأ بشرتنا في التغير حتى وإن كنا لا نشعر أننا نتقدم في العمر داخلياً، وأجد نفسي محبطاً أحياناً من مواقف الرجال الغربيين الذين يعطون الانطباع بأنهم “أفضل” مني بصفتي عربياً أو مهاجراً أو يتخذون موقف أنهم يتمتعون بحريات ليست لدينا، ولا يمكنني العيش مع أحد يعتنق هذه الأفكار ولست مستعداً لبدء علاقة وشرح نفسي مجدداً لشخص لا يريد فهم أي شيء عن ثقافتنا أو غير مستعد لذلك، فليس لديّ الطاقة. 

شعرتُ في حواراتنا السابقة أن النضوج، والعمر بوجه عام، لعب دوراً في الكيفية التي تقدم نفسك بها للمجتمع وكيف أثر هذا على صداقات معينة، وحتى نظرتك للعلاقات، هل يمكنك قول المزيد من هذا الأمر؟
لا أمانع التقدم في العمر، لكني أتأثر بالضغوط المجتمعية، وفي عمري هذا، أشعر كما لو أنني أريد أن يكون لي “بيت مستقر” وإن كان هذا الإطار لا يناسبني لأنني كويري، لكن أظن أن وجهات نظر الناس تتغير مع تقدمهم/ن في العمر، لا سيما عندما تتزوج الصديقات وتنجبن الأطفال، وينسى الناس أمرنا نحن الكويريون/ات عندما يستقرون اجتماعياً، وكأنهم/ن ينسون/ينسين كل السنوات التي قضيناها معاً، وما أعطيناه لبعضنا، والأشياء الجميلة التي تشاركناها، وإذا ما تجرأت على ذكر الموضوع، يخبرونني/يخبرنني بأنني أنا من تغيرت.

أعلم أننا نعطي بقدر ما نأخذ، لكني، بعمري هذا، أحتاج إلى أن يدعمني الناس أيضاً لأنني لا أستطيع فعل كل شيء بنفسي، وعليّ التوقف عن إعطاء الكثير للآخرين، وكان يجب أن أدرك هذا منذ سنوات، لكنني أتخذ قرارات صعبة بتوديع الأشخاص الذي لا يقدرونني أو يستهينون بي، وكنت أتقبل تعرضي للاستغلال وأنا أصغر سناً، أما الآن، فأريد تحرير نفسي من ذلك أو مقاومته، فالأمر ليس مجرد أنني لم أعد لطيفاً مع الآخرين.

Hoodie silver top: LANVIN. Pants: Vintage, Stylist’s own. Photographed by Teresa Suárez. Styled by Marwa Asserraji. Makeup by Hicham Ababsa.

برأيي، غالباً ما يمر الكويريون/ات بـ “مراهقة ثانية”، أو نوع من “التأخر”، [تشير عبارة “المراهقة الكويرية الثانية” إلى النظرية القائلة بأن الكويريين/ات لا يصلون إلى “محطات” معينة من النضج إلا بعد أن يشعروا/يشعرن بشيء من الارتياح مع هويتهم/ن الكويرية]، فهل هناك جوانب معينة تتذكرها من حياتك؟ هل تنظر إلى الماضي؟ وهل تشعر بالحنين لأي شيء؟
أكدّت “سميرة سعيد” على ذلك في أغنيتها الصادرة في عام 1979 “بنلف“، لكن حتى وإن كنا لا نحب حاضرنا، فعلينا أن نتذكر أن التغيير يحدث باستمرار وأن شيئاً أفضل قد يحدث قريباً.

هناك لحظة أريد الرجوع إليها، وهي واحدة من أكثر الأشياء التي ندمت عليها في حياتي، في عامي 2000 و2001، كنت أحب رجلاً تونسياً في باريس، وكانت واحدة من أجمل قصص الحب التي عشتها على الإطلاق، لكني أنا من أنهيتها والآن أنا نادم على هذا القرار؛ فلم أجد أحداً أحبني بهذا القدر أبداً، وقد أنهيتها بسبب غيرته ولأنه كان دائم الإحساس بعدم الأمان تجاه احتمالية تركي له، وفي ذلك الوقت، كنت أريد أن أصبح كاتباً وكنت أعمل على ذلك، وأعتقد أن نوع الحياة التي كنت أطمح إليها قد أخافته، وأتمنى لو كان بإمكاني العودة إلى الماضي لأطمئنه وأبقى معه، لكنني كنت متعجرفاً في تعاملي مع الأمر وقاسياً في كلامي، ولم أكن أعرف كيف أُرضيه.

كان يكتب لي الشعر، وأذكر كيف أننا اعتدنا الكتابة لبعضنا في المفكرة ذاتها، وعندما انفصلنا، مزق كل صفحاته وتخلص منها، ولا يزال لديّ المفكرة، لكن بلا صفحاته أو كلماته، وقد كانت قصة الحب هذه أجمل شيء في حياتي، وكانت تجربة شاعرية للغاية لا تحدث إلا مرة واحدة في العمر، وكان الأمر أكبر من مجرد حب؛ فقد كنا نغسل قدميّ بعضنا، ونتحدث العربية معاً، ونمارس الحب، واستمرت علاقتنا لأكثر من عام ونصف، وعلى الرغم من مرور عشرين عاماً على ذلك، فلا أزال أشعر أنه معي.

على الغلاف

على الغلاف الكاتب وصانع الأفلام المغربي عبد الله الطايع
أجرى المقابلة: خالد عبد الهادي
تصوير: تيريزا سواريز
تلبيس: مروى آسيرجي
مكياج: هشام عباسة 
مساعد التصوير: MaxX
تفريغ صوتي: MaxX
كتابة وتحرير: الايزا ماركس
ترجمة: هبة مصطفى
تصميم الغلاف: Morcos Key
تركيب وتصميم الغلاف: علاء السعدي
هذا المقال من عدد عقدة الواوا



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى