التمييز الإيجابي (affirmative action)…


التمييز الإيجابي (affirmative action)

الصديقان على فرحات و آسر قنديل من المثقفين الموسوعيين، و يتميز كلاهما بالذكاء المتقد و الأمانة الفكرية و الإنحياز للعدالة. أدلى كل من الدكتور على و الدكتور آسر بدلوه فى قضية التمييز الإيجابي، وهي قضية يحتد حولها النقاش فى الولايات المتحدة. لكنى لا أتفق معهما، فما هو الموضوع؟

التمييز الإيجابي فى الولايات المتحدة هو فى جوهره مجموعة إجراءات ترمى إلى إعطاء أفضلية فى التوظيف أو القبول فى الجامعات للفئات التى تعرضت فى الماضي للإضطهاد. و أهم تلك الفئات بالطبع هم الأمريكيون السود. أي أن جامعة مرغوبة مثل Harvard أو Stanford قد تحرم طالباً مستحقاً من فرصة الإلتحاق بها وتعطى المكان لطالب أسود أقل إستحقاقاً. بالطبع يبدو هذا إنتهاكاً لمبدأ العدالة – كيف تحرم المستحق و تكافئ الأقل إستحقافاً؟ و هذا هو ما إستندت إليه المحكمة العليا مؤخراً فى حكمها بعدم قانونية التمييز الإيجابي فى الجامعات.

لكن الموضوع أكثر تعقيداً.

لا يمكن النظر إلى حالة الزنوج الأمريكيين بأي قدر من الموضوعية والإنصاف إلا إذا تفهمنا أبعاد الجريمة التى اقترفها المجتمع الأمريكي ضد أسلافهم، وهي جريمة لا نظير لها فى تاريخ البشرية – لا الإستعمار ولا محاكم التفتيش ولا السبي البابلي ولا أي شيئ آخر يناظرها فى القسوة والبشاعة واللا-إنسانية.

تخيل أن جدك إختطفه من بلدته قراصنة ثم باعوه كالماشية فى بلد آخر، حيث أصبح عبداً يشقى من الفجر إلى سواد الليل بلا أجر. تخيل أن إبنك ما أن أصبح قادراً على المشي حتى إنتزعه البغل الأبيض الذى يملكك ويملكه، وباعه أمام عينيك لبغل أبيض آخر كما يبيع مُربّى الكلاب جرواً ولدته كلبته. تخيل أن البغل الأبيض الذى يملكك ويملك زوجتك يأخذها منك كلما راودته الرغبة ويفعل بها ما يشاء. تخيل أنك نشأت على مدى الأجيال فى مجتمع لا يعرف فيه الشخص أباه ولا أمه ولا إخوته، ولا يعرف معنى الكرامة ولا الخصوصية ولا الملكية، وممنوع بالقانون من تعلم القرآءة والكتابة أو أية معرفة أخرى.

صحيح أن أمريكا أوقفت تلك الجريمة البشعة (بعد حرب أهلية ضروس،) وصحيح أنها أحياناً تعبر عن ندمها على ذلك التاريخ المشين. لكن التدمير النفسي والفكري لملايين السود قد أصبح أمراً واقعاً سيحتاج إلى عدة أجيال من العمل الإيجابى لعلاجه. تفكر يا صديقى فى هذه الأمور قبل أن تسارع بإدانة فكرة التمييز الإيجابي.

المشكلة فى أساسها هي دائرة الشؤم (vicious cycle) التى تتغذى على نفسها – إذا بقي الشخص الأسود خارج الطبقة المتوسطة، سيظل أبناؤه و بناته محرومين من الإختلاط بتلك الطبقة و إكتساب عاداتها و ومعارفها، و كذلك أبناؤهم و بناتهم إلى الأبد. أي أن الظلم الذى وقع على السود فى زمن العبودية سيصبح مؤبداً و لا مخرج منه. لذلك لا بد من كسر تلك الدورة الشريرة و لو إقتضى الأمر إجراءات تبدو غير عادلة للآخرين.

التمييز الإيجابى هو بالفعل إجراء غير عادل. لكن هي لديك حل آخر؟ و لماذا تقبل اللا-عدل بالنسبة لملايين السود كفعل منظم و ممنهج، و لا تقبله على تلميذ أبيض أصابه سوء الحظ على نحو عشوائي؟ لا سيما أن ذلك التلميذ لو رفضته جامعة هارڤارد ظلماً ستقبله مئة (أو ألف) جامعة أخرى. هل تريد أن تحرم شخصاً من فرصته الوحيدة فى حياة كريمة لأنك لا تريد أن تتعدى على حق طفل مدلل فى أكل المارون جلاسيه بالكريم شانتيه؟ يا سيدى خليه مره ياكل المارون جلاسيه من غير الكريم شانتيه.

هذا من ناحية. من الناحية الأخرى هارڤارد و ستانفورد تقبلان كل سنة عدداً من الطلبة الذين تبرع أهلهم بمبالغ كبيرة للجامعة. بالطبع هم يرفضون مقابل ذلك عدداً مماثلاً من الطلبة المستحقين؛ هل هذا عدل ؟ و لماذا لا تمنع المحكمة العليا الترامپية هذا الفساد العلنى؟

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version