التطور و’مركزية النوع’…


التطور و’مركزية النوع’

تعيش خنفساء الروث حياتها فى كومة من روث البهائم، تبنى فيها مسكنها، وتأكل من “خيرها”، وتستمتع بدفئها، وتتزاوج وتتكاثر وتربى أطفالها فيها. نحن لا نعرف ماذا يدور فى ذهن الخنفساء، لكنها، لو كانت تفكر كما يفكر الناس، فهي بلا شك راضية تماماً عن حالها، لأن كل شيئ حولها يبدو وكأنه قد سُخِّر لخدمتها – فها هو فيل ضخم لا عمل له (من وجهة نظر الخنفساء) إلا أن ينتج للخنافس كميات وفيرة من الروث. وها هي أشجار عظيمة تنمو لكي تطعم الفيل لكي ينتج للخنافس مزيداً من الروث. وها هي أنهار تجرى فيها المياه لكي يشرب منها الفيل حتى يكون روثه بالقدر المضبوط من الرطوبة الذى يناسب الخنفساء … وهكذا.

لو كان هذا هو فعلاً تفكير الخنفساء، لكان معنى ذلك أنها وقعت فى نفس المطب الفلسفي الذى وقع فيه البشر. هذا المطب الفلسفي هو الخلط بين السبب والنتيجة. فالكون لم يشكله أحد بهدف خلق الظروف التى تناسب الخنفساء. وإنما العكس هو الصحيح – الخنفساء هي التى تطورت لتستغل الظروف الموجودة فى جزء متاح من البيئة، (وهو الروث الذى ينتجه الفيل لأسباب تتعلق بإحتياجاته هو.) الفيل يعيش حياته، ولا تخطر الخنفساء على باله، ولا حتى يحس بها عندما يدوس عليها ويدهسها. لكن الخنفساء ربما يتهيأ لها، (لو كانت تفكر مثل البشر،) أن الكون وكل ما فيه يدور حولها، ومُسخَّر لخدمتها.

لا أقصد هنا الإستخفاف بالبشر، لكنهم بالفعل يعانون مما ذكرته ويجاهرون بذلك. فهم يعتقدون أن الكون قد خُلِق من أجلهم، و أن النباتات والحيوانات قد خُلِقت لتكون لهم طعاماً، والأنهار تجرى لتوفر لهم المياه، والسماء زرقاء لأن هذا هو اللون الذى يريح عيونهم، والقمر موجود ليضيئ لهم البرية فى الليل … إلخ. وتمنعهم ‘مركزية النوع’ (*) من تقبل حقيقة إنهم تطوروا ليشغلوا هذا الحيز من البيئة الذى كان موجوداً قبلهم، وأن وضعهم فى هذا الشأن لا يختلف فى جوهره عن وضع غيرهم من الكائنات.

كذلك لا أقصد المساواة بين الإنسان والخنفساء، (فهذا عبث) – الإنسان كائن عاقل. ربما ليس بالقدر الذى نتمناه، لكنه يعى بذاته، يستطيع إستيعاب الأفكار المجردة، يستعمل قدراً من المنطق فى فكره وتصرفاته، ويمتلك القدرة على تراكم المعرفة عبر الأجيال. كل هذا صحيح، لكنه لا يغير من حقيقة أن كل كائن حي، (بما فى ذلك الإنسان،) تطور ليستغل شريحة من البيئة كانت متاحةً له.
________________________
*) إعتقاد الفرد بأنه هو (شخصياً) أهم شيئ فى الدنيا، وأن الكون يدور حوله ويخدم مصالحه – هذا هو ما نسميه ‘مركزية الذات’ (ego-centrism). بالمثل – الإعتقاد بأن الكون يدور حول مصلحة البشر (أو الخنفساء) هو ما نسميه ‘مركزية النوع’ أو ‘geno-centrism’. مركزية الذات ومركزية النوع تختلفان عن الأنانية (egoism)، وهي إيثار الذات، والنرجسية (narcissism) وهي عشق الذات.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version