كتّاب

الأستاذ عبد العاطى فى ليلة شتاء عاصفة…


الأستاذ عبد العاطى فى ليلة شتاء عاصفة
لا يعرف ظلام قري وبلاد الدلتا حالك السواد فى ليالي الشتاء العاصفة، إلا من عاينه وعاشه، فى بلدنا الباجور- منوفية، قبل أن تدخلها الكهرباء فى منتصف الستينيات، وكان الشتاء باردا وطويلا تسقط الأمطار غزيرة ومتواصلة طوال الليل والنهار لأيام كثيرة، فتتحول شوارعها الترابية إلى برك طينية وأوحال كثيفة يستحيل المشي فيها، ويضطر الناس لوضع قوالب الطوب او أى مخلفات بجوار الجدران ليخطو المضطرين للمشي فوقها متساندين على الحوائط، وبمجرد دخول الليل يقبع الناس جميعا داخل بيوتهم ويلتفون حول “المناقد” التى تظل مشتعلة بالقوالح والخشب وقتا طويلا مخافة التجمد من البرد، ويبحث الناس بقلق عن “سلهوب” الهواء البارد الداخل كالرصاص من عُقب الباب ليسدوه بالخلقات القديمة، وتغرق الشوارع والدروب فى ظلام دامس، فلا شعاع من نور للمبة أو كلوب يخرج من باب أو شباك مفتوح، بل ويكف عم “أحمد اسماعيل” موظف البلدية عن المرور بسلمه الخشبي وصفيحة الجاز ليعمر ويوقد اللمبات والكلوبات القليلة فى الشوارع لتعين الناس على المشي فى أول الليل فهو يعلم أنه لن يخرج أحد من بيته مطلقا فى مثل هذا البرد وهذه الوحلة.
أما الأستاذ عبد العاطى فهو شاب من أسرة كبيرة العدد تضم سبعة من الذكور والإناث، يعملون فى فلاحة أرضهم إلا من تعلم وجمع إلى الفلاحه عمله الحكومى، ويعيش معظمهم فى بيت واحد بعد أن تزوج بعضهم واستقل، حصل عبد العاطى على التوجيهية ودخل معهد المعلمين ودفعه حبه للحساب ليحصل على دبلوم فى المحاسبة مما أهله ليعمل سكرتير لمدرسة “المؤسسة” بمركز الباجور، ولنزاهته ودقته البالغة سرعان ماترقي ليصبح مفتشا ماليا وإداريا على مدارس القري التى تتبع إدارة الباجور التعليمية وهى قرى كثيرة، وتمتع بسمعة رائعة بين الناس فهو صادق، حقانى، يقول الحق ولو على رقبته، فقصده الناس للفصل بينهم فى خلافاتهم، فهو يقيس بالقصبة والذراع الأرض لينال كل أخ من الإخوة نصيبه، ويحكم فى الخلافات على “البهائم” الشرك، وعلى أسبقية الرى، ويسعى للصلح بين المتخاصمين، وقصده الناس للاحتفاظ بأوراقهم وعقودهم الثمينة وكان إلى هذا كله مجاملا فى الأفراح والأحزان، كريما وطيبا وحساسا قريب الدمعة، وعندما يروق الوقت لم يكن يبحث فى الراديو إلا عن أغانى عبد الوهاب وأم كلثوم ويحفظها جميعا
أصيب عبد العاطى بمرض الربو اللعين فى مقتبل شبابه وصاحبه سنوات حتى أصبح مرضا مزمنا يعفو عنه فى شهور الصيف، ويجبره على زيارة طبيب الصدر مرات عديدة فى أشهر الشتاء ويؤرقه ويؤلمه أشد الألم ويجبره على معاناة ألم السعال ساعات طويلة.
وفى أيام الشتاء الممطرة والموحلة والعاصفة كان عليه أن يقوم بمراجعة ثلاث مدارس من مدارس القرى المجاورة تبعا لجدول الزيارات التى يقدمها أسبوعيا للإدارة: مدرسة أبو سنيطة فى يوم ثم مدرسة سُبك الضّحَّاك فى اليوم التالى ثم مدرسة القرينين، تناول الرجل فطوره مبكرا وأخذ دوائه الكثير وخرج قبل شروق الشمس قاصداً قرية “أبو سنيطة” التى تبعد عن البلد نحو خمس كيلومترات، وقد كان المشى على القدمين هو الوسيلة الأساسية لانتقال الموظفين بين القرى، إلا اذا امتلك أحدهم دراجة أو موتوسيكل أو ركوبة (حمار)، فلم تكن القرى قد عرفت التوكتوك ولا الميكروباص بعد، المهم وصل الرجل إلى المدرسة ورحب به الناظر والمدرسون وبعد القهوة والشاى قام الى دفاتره والمطر يهطل سيولا خارج الحجرة، وانهى عمله قرب العصر وكتب تقريره، وهم بالسلام والانصراف ولكن تحلق المدرسين حوله وانهالت عليه الحلفانات بالطلاق وبالمصحف الشريف إذ من يسمح له بالمشى فى هذا الجو العاصف والمطر الهاطل والطريق المقطوعة، وهو صاحب فضل وخيره سابق؟ وفى المساء قضى الرجل بمضيّفة أحدهم ليلة دافئة رغم برودة الشتاء، ولم يكن يؤرقه إلا انه قد فاته أن يأخذ دواء الربو الكثير الذى يتناوله مع كل وجبة من وجباته الثلاث وعموماً ربنا يستر، والتف الزملاء معه حول المنقد ودارت ادوار الشاى والقهوة وأحلو لعب الطاولة، وبشروه بأن زميلا لهم سيصحبه باكراً على ماكينته إلى مدرسة سُبك الضحاك
وبينما يقوم الرجل بعمله فى مدرسة سُبك كانت الأمطار فى الخارج لا تتوقف والسماء ملبده بالغيوم، وكتب تقريره وهم بالانصراف ولكن تحلق المدرسين حوله وانهالت عليه الحلفانات بالبقاء، فقضى الرجل بصحبة الزملاء ليلة طيبة كالأمس
وفى اليوم الثالث كان الأستاذ عبد العاطى يدخل إلى دارهم قرب المغرب، فغير ملابسه، وقد أعدت له أمه التى أوحشها بلا شك غداء شهيا تناوله ممتناً، وصعد إلى “مقعده” ليتناول دوائه الذى تأخر عنه ثلاثة أيام وراح يضع فى طبق صغير الجرعات التى فاتته: حبه قبل الإفطار إذن نضع حبتان لإفطار الأمس واليوم، كبسولة بعد الإفطار.. كبسولتان، حبة قبل الغداء أول أمس وأمس واليوم ثلاث حبات، وأثناء الغداء كذا وبعد الغداء ومع العشاء وقبل النوم.. وهكذا حتى اجتمع له فى الطبق نحو ثلاثين حبه وكبسولة مختلفة الألوان والأشكال والأحجام وتناول القلة وشرب وابتلعهم جميعا وبعدهم سبع أو ثمان ملاعق من الدواء السائل، ونزل ليقضي ما بقي من الليل فى فسحة الدار حول المنقد مع إخوته ويشرب الشاى ويقص عليهم ماكان من أمر رحلته، وتحلقوا جميعا حول المنقد وقد لبسوا أقصى مايمكن لبسه من ملابس ثقيلة وشرابات من الصوف وطواقى تغطى الأذنين، ووضعوا على أكتافهم العبايات واللبدات، وتسامروا ساعة أوساعتين، بينما يصك اسماعهم صوت المطر الذى ينهم والريح التى تصفر خارج الدار، وبدأوا فى التثاؤب والانصراف إلى النوم ولم يبق حول المنقد إلا الأم التى غلبها النعاس وعبد العاطى الذى راح يشعر بزغللة شديدة فى عينيه وسخونة تسرى فى أوصاله، فراح يهز رأسه فى عنف، ويزفر زفيرا مسموعا، وانتبهت الأم فراحت تتساءل: مالك يا عبعاطى مالك ياولة؟
بينما يقوم هو بخلع مايرتديه من ملابس كثيرة ويهرش فى ظهره وصدره هرشا شديدا، وهو يرد: نار يا أمه.. نار قايدة ف جتتى، وعندما لم يبق على جسده سوى الفانلة الأخيرة – نصف كم – واللباس – الدمور- راحت الأم تنادى إخوته بصوت عال: يا مسعد.. يا ابراهيم .. ياعبد الرحمن يا ولاد انزلوا شوفوا أخوكم ماله؟ وقبل أن يرد عليها أحدهم، كان عبد العاطى قد فتح الباب وهو يصرخ: نار .. وانطلق بسرعة لا يلوى على شئ،
كان منتصف الليل قد ولى، وراحت الشوارع حالكة الظلام الموحله التى هجرتها الحياة منذ المغرب تردد النداء: يا عبد العاطى، ويتفرق الإخوة فى شوارع مختلفة وهم ينادون، ويعرفون انهم لا يستطيعوا العدو فى شوارع يزيد عمق الوحلة فيها على “شبر”، فيلتزموا الجدران ويواصلون الصياح، وربما أقلق الصياح فى هذا الوقت العجيب من يفتح شباكه ويسأل: هو فيه إيه يا جماعه؟.. ويدفع التعاطف والشعور بالمسؤلية من الأقارب والمحبين من يخرج واضعا على رأسه وأكتافه شالا ثقيلا، ويحمل لمبة غاز نمرة 5 او نمرة 10 أو لمبة صاروخ، وبعد ساعة كانت قد تعددت اللمبات وزادت أعداد الناس، وتفرقوا ينادون فى شوارع عديدة، ولمح احدهم شبحا يمشى مترنحا فصاح: أهه، فأسرعوا ليجدوه هوبنفسه الأستاذ عبد العاطى، مترنحا مرهقا يتنفس بصوت، والأوحال قد غطت نصفه، استوقفوه فوقف ووصل إخوته وأمسك أحدهم يده ووضع الآخر يده على كتفه، واحتاروا بين الغضب منه والحزن من أجله، فاكتفوا بقولهم: كده يا عبعاطى؟؟ دانت بهدلتنا ياراجل، ربنا يسامحك، عامل إيه ياخويا؟ فيرد بخجل بين انفاسه اللاهثة: الحمد لله أنا كويس دلوقت.. ويسلم لهم قياده ويمشى معهم بهدوء واستسلام، وهم يحمدون ربهم أنها جت على كده، فيطمئنوا … وفجأة يمرق عبد العاطى من بين أيدهم وينطلق كالسهم، ويختفى بعد لحظات، وتعود النداءات: يا عبد العاطى انت فين عبد العاطي، حتى يقول أحدهم: أهه .. هناك أهه، فيسرعون إليه ويمسكوه وهو هادئ ومستسلم قائلا: الحمد لله.. ويسير الركب المنهك الموحل بهدوء وفى وسطه الأستاذ عبد العاطى الذى يمرق من بينهم مرة ثالثة ورابعة
وأخيرا وضعوا خطة بأن يمشي بعضهم فى الأمام وبعضهم فى الخلف، ويمسك أحدهم فانلته ويمسك الآخر لباسه لا يفلته، ومشي الموكب المنهك الموحل فى اتجاه الدار، وراح الناس ينصرفوا، ووصل الإخوة الأربعه وهم يكادون يسقطوا من الإعياء إلى مشارف البيت، والشمس ترسل أشعتها الذهبية الدافئة مؤذنة بيوم جديد.
يسعد أوقاتكم

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى