كتّاب

استسلام محمد الربع….


استسلام محمد الربع.
ـــــ

ربما يعلم الفنان محمد الربع أنه لم يعد يضحك أحداً. المأساة ليست على الدوام مادة استعمالية، خصوصاً: للترفيه. على الجانب الموازي يتندر محمد الأضرعي من “الجثث الحوثية”، ويطلق عليها التشبيهات الكوميدية معتقداً إن جثث اليمنيين يمكن استخدامها لاستدرار ضحك الصائمين!

شاهدت اشتغالات محمد الربع في برنامجه، بعض حلقاته شاهدتها مرتين أو أكثر. الجزء الأكبر من نشاطه الفني انصرف إلى الحوثيين. ولكن كيف نظر الربع إلى الحوثيين “هذا العام؟”..

يضع الحوثيون “وزراء” متواضعي القدرات في بعض الحقول المهمة. اقترب الربع من بعض الوزراء الحوثيين، كالتعليم والرياضة. سخرية الربع من هذين الوزيرين، ومن وزراء آخرين، كانت مسلية في أحيان كثيرة، وخطرة. فهي سخرية تأتي ضمن اعتراف نهائي بكونهما وزيرين في حكومة، وأن تلك الحكومة تدير دولة ذات طبيعة قانونية.

ساق الربع ملاحظاته الفتاكة ضد الحوثيين بوصفه مواطناً وبحسبانهم الدولة. حتى إنه طالبهم أكثر من مرة بدفع الرواتب، بتحسين وضع السجون، بإصلاح الطرقات، بتوريد الضرائب إلى الخزينة العامة، وعاتبهم على “سوء” اختيارهم لموظفيهم الكبار!

لا يزال الموقف العام من الحوثيين هو اعتبارهم عصابة إرهابية اختطفت الدولة وأخضعت المواطنين. وإن كان هذا الموقف آخذاً في التلاشي، خصوصاً في الداخل حيث يحمل المواطنون احتقاراً مراً للرئيس هادي، الرجل الذي اختبأ في هذه الحرب وترك مواطنيه يخوضونها بمفردهم وعجز حتى عن مخاطبتهم عن بعد.

إن كان المتوقع أن يعرض الفنانون أفعال الحوثيين بوصفها “فظاعات إرهابية”، فقد جاء عاكس خط بفلسفة أخرى: إنها مشاكل فنية تورطت فيها “الدولة الحوثية”. غالباً ما قدم الربع نصائحه للحوثيين، وكانت نصائح تتعلق بــ Qualitätssicherung أو: إدارة الجودة. هنا تقاطع الربع مع الصحفيين الذين تخلوا عن دعمهم للحوثيين بعد أن تأكد لهم أن الحوثيين “جماعة غبية” تقع في الأخطاء، وليس تنظيماً إرهابياً يرتكب الجرائم الدستورية.

أكثر من مرة عرض الربع جلسات من البرلمان الحوثي، اعتمد على المعلومات التي يتداولها النواب الحوثيون، ومن خلالها أشبع النظام الحوثي سخرية. الأداء البرلماني الحوثي كان لافتاً في بلد مزقته الحرب وغمرته الميليشيات الخليجية والإيرانية. فقد شاهدنا نوابا حوثيين يحضرون الجلسات وهم يحملون دوسيهات مليئة بالأوراق، يقدمون شكاوى وعرائض تفصيلية حول الخدمات والسياسات. بدا الأداء الحوثي، من خلال الأوركيسترا البرلمانية، مقنعاً للغاية. خصوصاً في ظل غياب شامل لأي مظهر من مظاهر الأداء الدولتي على الضفة الثانية.

تحدث البرلمانيون الحوثيون عن فساد النظام الحوثي، عن الأموال المهدرة، عن السوق السوداء، وعن جودة التعليم. كان البرلمانيون يقدمون عرائضهم بالأرقام، وبلا خوف. ثمة، كما يقول عاكس خط، دولة مكتملة الأركان، وهناك أجهزة تعمل على كل المستويات في صنعاء وما حولها، وهناك سلطة موزعة أفقياً على نحو غير أخلاقي لكنه فعال نسبياً.

فتش البرنامج داخل تلك الدولة ووجد مادة دسمة من المشاكل الفنية ومن الجرائم الأخلاقية. غير أن ذلك كله حدث داخل “دولة”، وليس داخل جماعة إرهابية. لقد هاجم الربع الدولة الحوثية وليس التنظيم الإرهابي، وأحالهم إلى الدستور ولا تحال إلى الدساتير سوى المنظومات ذات الطبيعة القانونية.

كان مثيراً أن حلقة واحدة قدم فيها الربع نقداً لمؤسسة الرئاسة الشرعية جلبت عليه مصاعب جمّة حد الحديث عن إحالته للتحقيق العسكري. وشوهد النواب الحوثيون يصبون غضبهم على أجهزة الدولة الحوثيية وينعتونها بالقرصنة ثم يعودون إلى منازلهم، لا يتوعدهم أحد. تعامل الحوثيون مع الاعتراضات البرلمانية كدولة، وانفعل هادي ضد النقد كرئيس عصابة.

أسدى عاكس خط خدمة جليلة للحوثيين. عرض جرائمهم بوصفها من أعمال الدولة لا العصابات، وقدمهم كمسؤولين لصوص لا كإرهابيين لا علاقة لهم بالقانون. أحال أفعالهم، في أكثر من مرة، إلى الدستور اليمني وحاكمهم إليه. الحوثيون جاؤوا من خارج الدستور، وسبق لهم أن ألغوه في بيان عام. حاول “عاكس خط” إعادة تطبيع العلاقة بين القانون والجمهورية من جهة، وبين الحوثيين من جهة أخرى. أما النقد اليومي الشرس الذي وجهه البرنامج إلى الحوثيين فقد جاء منطلقاً من فكرة تقول إن هناك مسافة مرئية بينهم وبين الدستور، ومن الجيد أن تردم.

استسلم مقدم البرنامج لواحدة من أخطر الحقائق التي ننكر، جميعنا، وجودها. لقد انتصر الحوثيون في هذه الحرب، وذهبوا يؤكدون شخصيتهم كدولة. فقد رأيناهم ينتقلون من جماعة مسلحة إلى حكومة أمر واقع، وها نحن نراهم يتصرفون كدولة ذات سيادة. ذلك ما يؤكده “عاكس خط” من خلال مشاهداته والتقاطاته الكثيرة.. تقول واحدة من أقدم النظريات العسكرية: ينهزم القوي حين يعجز عن كسب المعركة، وينتصر الضعيف إذا قاوم الهزيمة.

راح عاكس خط يسدي نصائحه الفنية للحوثيين كما لو أنه ينال منهم، إذ بدت نصائحه في شكلها الأخير على هيئة متتالية من الملاحظات التي تهدف إلى جعل “دولتهم” تسلك أفضل مما هو واقعها الآن..

لم يعد الحوثيون قادرين على الوصول إلى عدن، ولا السعودية وحلفاؤها قادرة على دخول صنعاء. إذا استمرت هذه الحرب اللعينة لعشر سنوات قادمة فإن هذه الحقيقة ستبقى على حالها، وستكون الكلفة الإنسانية تاريخية. في الأيام الماضية استطاعت إيران بأربعة ألغام بحرية تعطيل خطة عسكرية واقتصادية بنيت على مدى عامين وحشدت لأجلها مؤتمرات دولية كبيرة. الرسالة الإيرانية البسيطة صدمت السعودية، وجعلتها تدور حول نفسها فاقدة للحيلة. ستستمر السعودية في الدوران حول نفسها وستصل إلى وثيقة سلام مع “الدولة الحوثية” في وقت غير بعيد. أما جائزة نهاية الخدمة التي ستقدمها لحليفتها “الإمارات” فستأحذ شكل دولة: جنوب اليمن. سيجري شكل ما من أشكال السلام الهش بين الشمال الحوثي والجنوب الإماراتي يسمح بتنقل الأفراد والبضائع، لا السياسات ولا الجيوش. لدى الدولتين، الإمارات والسعودية، خبرة واسعة في تفكيك البلدان وتفجيرها من الداخل “الصومال، ليبيا، لبنان، البحرين، اليمن إلخ”. وسيعيش جزء من اليمنيين في الشتات، وسيعود آخرون إلى بلادهم داخل ضمانات وأعراف قبلية، وستنتهي السياسة كما عرفناها تاركة محلها مجالا عاماً مغلقاً تحكمه ميليشيات دينية في الشمال و”حكومة ڤيشي” في الجنوب.

م.غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى