كتّاب

أول أغنية منعتها الرقابة…..


أول أغنية منعتها الرقابة..
النحل النحل.. قرصنى يا هوه
مند فجر الحضارة المصرية، كانت الطبيعة سخية وهادئة ولطيفة، وباستثناء زمن الجفاف والمجاعة والأوبئة، وقد كانت قليلة على أى حال كان النيل يفيض على الوادى كله وبعد أن تنحسر مياهه، يبدر الناس بذور المحاصيل المختلفة، ويتعهدونها بالرعاية إلى أن تنضج، وكان هدا كله مدعاة لوجود مجتمع مستقر يتمتع بدرجة لا بأس بها من الرخاء، ولذلك يذكر التاريخ أن أعياد المصريين كانت تزيد على 160 عيدا فى العام، بين أعياد دينية أو ملكية أو اجتماعية، وكانت تلك الأعياد تصاحب بمظاهر صاخبة من الرقص والموسيقى والغناء، وللأسف الشديد لم تحفظ لنا الآثار النوتات الموسيقية أو طريقة أداء الأغانى أو العزف، وإن كانت قد تركت لنا رصيدا ضخما من الآلات الموسيقية كالهارب والمزامير بأنواعها والطبول والربابات، كما تركت لنا على جدران المعابد والقبور مناظر الراقصات والعازفات والمغنى الضرير وحفلات الطرب الصاخبة، كما تركت لنا بقايا أغنية عاطفية شجية تقول:
أشكو إلى الليل وضوء الصباح… ومن لون الورد بلون الجراح
فأصبح قلبى هائما مثل ريشة… تائهة فى مهب الرياح
وتنوعت أغراض الغناء تنوعا هائلا، غناء دينى وأغانى العمل، وأغانى الأطفال وغيرها، وكان من أهم صنوف الغناء، أغانى الأفراح، والتى كانت تنصب على المباهاة بأصل وعائلة العروسة وشطارتها ومهرها الغالى، وكان من المنطقى أن تنتقل الأغراض إلى التغزل بجمال العروسة وحسنها وأوصافها المحببة والمثيرة، وفى المخيلة الشعبية العديد من التشبيهات المثيرة لوصف جسد العروسة كتشبيه بطنها بالعجين الخمران، وتشبيه سرتها بالفنجان، كناية عن البياض والامتلاء وهى من صفات الحسن عند الفلاحين، وتشبيه صدرها بالرمان:
“يابتاع الرمان رمانك دبلان بص علينا وطل”
و “اتدحرج وإجرى يارمان وتعالى على حجرى
دا انا حجرى حنين/ يا خدك ويميل”
وتشبيه أنفها بثمرة النبق، وخدها بالتفاح، كما تزخر الأغانى بدعوتها المثيرة للعريس:
“أنا عايزه الرز على السرير
أنا لما دماغى بتوجعنى
ولا واد ولا بنت حتنفعنى
أنا عايزة حبيبى يدلعنى
ويجيب لى الرز على السرير”
و “يللى ع الترعة حود ع المالح
بقى بيوجعنى..من إيه؟
بقى بيوجعنى من بوس إمبارح
بطنى بتوجعنى من إيه؟
بطنى بتوجعنى من قرص إمبارح
صدرى بيوجعنى من إيه؟
صدرى بيوجعنى من مسك إمبارح
ضهرى بيوجعنى من إيه
ضهرى بيوجعنى من هبد إمبارح”
و” بس الولا – تقصد الولد – ييجى /ييجى ع المحطة
وأنا أدبحلة بطة
وأشاورله ييجى
ييجى ع الرشاح وانا ادبحله فراخ بس هو ييجى
ييجى ع السرير وانا اعمله فطير
ييجى ع التسريحة
واحطله ريحية بس واناديلو ييجى”
كانت هذه بعض من أغانى الفلاحين المثيرة والجميلة تغنيها الفتيات فى حفلات الأفراح مصحوبة بلفتات وايماءات أكثر إثارة، لحث الشباب على الإسراع باختيار رفيقة العمر والحياة والاقتران بها،
وفى أوائل القرن التاسع عشر تسربت إحدى تلك الأغانى إلى القاهرة، وكانت مصر قد تخلصت من الاحتلال الفرنسى وسنوات الفوضى التركية والمملوكية التى أعقبتها، واستقر محمد على (1805 – 1848) فى حكم البلاد، وراح ينفد مشروعات النهضة الحديثة فى الزراعة والرى والصناعة والتجارة، مما دفع بالمجتمع إلى حالة من الرخاء أدت إلى تعدد وتنوع الفرق الموسيقية والغنائية المتجولة، والتى كانت تضم موسيقيين ومغنين “مواويلجية” وبعض العوالم والغوازى، كما تنوعت المقاهى وأماكن اللهو والطرب فى أرجاء القاهرة الفسيحة، وتتجول الفرق فى أنحاء القاهرة وعندما تطمئن الفرقة إلى أحد المقاه فإنها تتقدم لتواجه جمهور المقهى ويتقدم مغنى الفرقة بصوته الرخيم ليطلق موالا أخضرا أو أحمرا يحيي فيه جمهوره “المنورين” وربما يأتى فيه على ذكر أسماء بعض الجالسين المعروفين “فتوات أو تجار أو غيرهم”وبعد فترة قصيرة من العزف تتقدم العالمة أو الراقصة والمغنية، وتبدأ فى غناء تلك الأغنية: ” النحل النحل النحل ياهوه / وقرصنى ف إيدى النحل ياهوه –
ولأن لسعة النحل مؤلمة جدا لمن جربها – فإنها تأخد بحك وهرش يدها، ثم تثنى بوجهها وعنقها، ثم تهبط إلى كتفها،:
وقرصنى ف كتفى النحل ياهوه
وتبلغ درجة بعيدة من الإثارة عندما تهبط أكثر:
وقرصنى ف صدرى النحل ياهوه
وتصل الإثارة إلى ذروتها عندما تهبط إلى بطنها:
وقرصنى ف بطنى النحل ياهوه
كل هدا مع الحك والهرش الشديد ورجرجة الأعضاء وتعريتها، وربما تطمئن العالمة إلى مشاهديها المتحمسين وتزداد ثقة فى أدائها، فتهبط بقرص النحل إلى أعضاء ماتحت بطنها، من أمام ومن خلف، مشيرة إليهم بأسمائهم الشعبية” وبالتأكيد فإن الإثارة تبلغ ذروة النشوة كلما كانت الراقصة جميلة الوجة صغيرة السن ثرية التكوين.
فيزداد حصيلتها من النقوط وعطايا المشاهدين، ويزداد نصيبها منها
المهم نرجع لموضوعنا حول الرقابة، إذ يبدوا أن أحد الشيوخ من المحافظين المتزمتين قد حضر واحدة من تلك الأغنيات التى أبدعت فيها الراقصة بلا شك، فهاله مافيها من مسخرة وتعرى وإثارة وما يصاحبها من رموز وإشارات وألفاظ جنسية صريحة تتبادلها الراقصة مع جمهورها المهتاج
فأخد الرجل طريقه إلى شيخ أكبر ممن يمكنهم الوقوف بين يدى الباشا محمد على، فشكوا إليه أن تشهد بلد الأزهر والمشايخ والفقهاء تلك المساخر التى تعجل بالفقر والبوار وسوء الحال والمآل، فأصدر محمد على أمره لمحتسبيه وشرطته بترصد تلك الفرق والقبض على الراقصة التى تؤدى تلك الأغنية الخليعة وتجريسها وجلدها حتى تختفى تماما من مقاه القاهرة ومن شوارعها، وأغلب الظن أن الأغنية لم تختف من مقاه القاهرة، وربما تمتعت تلك الفرق بحماية بعض الفتوات فى مواجهة المحتسبين والشرطة، الدين تحول بعضهم إلى مشاهدين متحمسين لتلك الأغنية المثيرة مقابل المتعة والحلوان
واستمر الغناء المثير فى البلاد إلى مطلع القرن العشرين لتغنى منيرة المهدية ليونس القاضى:
“بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة / إنسى اللى فات وتعالى بات/ يوم التلات”
وتغنى أم كلثوم للنجريدى” الخلاعة والدلاعة مدهبى” ويغنى سيد درويش الرائع فى دور” على قد الليل مايطول” لبديع خيرى: “شفتى بتاكلنى انا ف عرضك/ خليها تسلم على خدك/ يوه يا دين النبى تنك سايح/ مشبعتش من ليلة امبارح/ ..
أما نهودها دى توزن وقة دا انا متبرجل ياحدقة يا كتاكيتها يا ننوسها”..
ومع ظهور التسجيل والاستعداد لإنشاء الإذاعة كان لابد من انشاء هيئة الرقابة على المصنفات الفنية 1928،
ومع هدا فمازال المصريون يؤلفون ويغنون الأغانى الخليعة ويسمعونها ويدور بينهم وبين الرقابة لعبة عسكر وحرامية لأنهم ببساطة يحبون الحياة ويكابدونها ويشتاقون لمتعها روحية كانت أو حسية.


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى