كتّاب

أنا ووشاحى وتمثال طه حسين:…


أنا ووشاحى وتمثال طه حسين:
كنت أدرس تاريخ التربية لطلابي فى تربية حلوان، سنة 1994، وكان مكانها، منزل “طه حسين” بالزمالك وهى ملاصقة لكلية الفنون الجميلة حيث كان يدرس فن النحت صديقي المثال العظيم “عبد الهادى الوشاحى”(1936-2013). زارنى فى الكلية وقال لى: عرفت أنك تنتهى من محاضراتك اليوم “الاثنين” فى الثالثة، وأنتهى أنا من ورشة نحت لطلابي فى الرابعة، يبقي تخلص وتيجى تحضر ورشتى تشرب شاى وقهوة وأديلك حتة طينة صلصال تلعب فيها على ما أخلص. ليه يا وشاحى؟ سألت أنا، فقال لي: أنا اتعاقدت مع وزارة الثقافة أعمل لها تمثال”صرحى” ارتفاعه خمس أمتار بمبلغ خمسة وسبعين ألف جنيه، وكان مبلغ هائل فى ذلك الوقت، ليوضع فى حديقة متحف بيته “رامتان”، ولأننى أعلم أنك من أهم من يعرف طه حسين، فقد قررت أن أصحبك بعد الكلية لنتمشى معا على قدر ما نستطيع من الساعات، أسألك عن طه حسين، وأنت تجيبنى، مقابل “الغدا والمشروب” على حسابى. قلت له لعلك تريد الحصول على صور طه حسين وعموما هناك ارشيفان لصور الرجل فى الهلال والأهرام، فشتمنى، وكان رحمه الله يشتم ولكن دون أن يؤلم، قائلا: هكذا المثقفين الجهلة السطحيين، أى صور تلك التى تقصدها، أنا لدى الأرشيفين وأكثر مما تتخيل من صور، ولكننى لا أرسم لطه حسين صورة بالفحم كما يفعل المصورون الفقراء فى المحطات، أنا أريد أن أعبر عن ثقافة ومكانة وتاريخ وجهد ودور وقيم للحداثة والتنوير.
المهم رحت أحضر ورشة وشاحى –ولعلنى اتحدث عن دروسها المستفادة مرة أخرى- وبعدها يصحبنى لنسير فى الزمالك مرة بجوار برج أم كلثوم فالنادى الأهلى فلأوبرا فكبرى قصر النيل لنستقر فى وسط البلد حيث نتغدى فى مطعم جميل، ومرة ثانية نأخذ طريق ماريوت، وغيرها
وهو يسألنى: متى أصيب طه حسين بالعمى؟ حدثنى عن ريف المنيا فى زمن مولده، ماذا بقى من الصعيد فى كتاباته؟. كيف بدأت مشكلته مع الأزهر؟ علاقته بلطفى السيد، كيف كان يقرأ ويكتب؟ متى خلع الكاكولة ولبس البدلة؟ ما مشكلة كتاب الشعر الجاهلى؟ علاقته بعلى عبد الرازق؟ هل كان حزبيا فى وقت ما؟ ما علاقته بسعد والنحاس وغيرهم؟ مشكلته مع صدقى؟ ما علاقته بعبد الناصر؟ أين سكن وعاش؟ هل كان غنيا؟ هل كان كافرا – كما قال أعداءه – هل كان يشرب؟ هل كان بخيلا؟ هل كانت زوجته مستبدة ومسيطرة عليه؟ ماعلاقته بهيكل والعقاد وشوقى وغيرهم؟ أبرز تلاميذه؟ ما أهم معاركه؟ .. وغيرها وغيرها وكل سؤال يفتح الطريق لأسئلة جديدة وأنا أجيب ومالا أملك الإجابة عليه، أستمهله لحين العودة للمراجع… لمدة ستة شهور كاملة، حتى قال لي وشاحى: أنت تستحق أن تكون أول من يرى تمثال طه حسين، وأصطحبنى إلى ورشته فى أرض اللوا، وبعد الإفطار والشاى أخرجنى حتى يفك الخيش من على التمثال الصلصال، ودخلت لأجدنى مبهورا، أصفق فقط وأنا أقول: الله الله الله
طه حسين تمثال من الصلصال يبلغ إرتفاعه مترا، – مجرد نموذج لإكمال التعاقد – فى سن النضج نحو الستين – لا الشباب ولا الشيخوخة- يجلس شامخا لينحنى قليلا مبالغا في طول جذعه، وهو يحنو على تلاميذه كشيخ فى كتاب، كان يريد أن يجعله واضعا ساقه اليمنى على اليسرى ويده اليسرى فوقها وفوقها يده اليمنى كما اعتاد ان يجلس دائما ولكنه وجدها ستكون معقده أثناء صب التمثال الكبير من البرونز فاكتفى بوضع يده اليمنى على ركبته فاردا أصابعه الطويلة، قابضا باليسرى على كرسيه، عندما تشرق الشمس تحيط برأسه هالة النور التى تحيط برؤوس القديسين المسيحيين، ولو وقفت فى مواجهته تجد شعاعا من النور يسقط من عينيه عليك، وإذا تحركت على الجانب تجده يرتدى نظارته السوداء.. فقد كان أعلى رأسه مفرغا لينزل منها شعاع الشمس إلى عينيه… يسعد أوقاتكم


يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى