كتّاب

أمس وأنا أكتب قصة المحكمة تذكرت حكاية جرت معي في صنعاء٢٠٠٦. رغم حقيقة أن الحكايت…


أمس وأنا أكتب قصة المحكمة تذكرت حكاية جرت معي في صنعاء٢٠٠٦. رغم حقيقة أن الحكايتين، صنعاء وإيسن، تدوران في عالمين مختلفين إلا أنهما في تقديري تتشابهان من زاوية ما، الزاوية الأهم: الحكم من خلال الانطباع الشخصي.

عدت إلى اليمن، قادما من مصر، بعد أن انهيت رحلتي مع البكالوريوس. كانت مهمتي كالتالي: أن أحصل على منحة دراسات عليا، تعيين في الجامعة، ثم أعود. العزيز الدكتور راوح، وزير التعليم آنذاك، كان قد منحني توجيها صريحا قبل أن أنهي سنة الامتياز. حدث ذلك حين التقيته في سيارته طالعا من لقاء الوزراء الأسبوعي. قدمت له الطلب فوقعت عينه على مقالة لي، تحت الطلب، بعنوان: ما بعد الديموقراطية، منشورة على صحيفة الجمهورية. قرأ نصف المقالة ثم انتقل الحديث إلى الدكتور أحمد أبو زيد، عالم الاجتماع المعروف. سأزور فيما بعد الدكتور أبو زيد في منزله في سكندرية وسأجري معه لقاء قصيرا لصالح صحيفة النداء. وهو يحدثني عن دور أبو زيد في “مجد” مجلة عالم الفكر كان الدكتور راوح يكتب على ورقة الطلب: لاستكمال ابتعاث الطالب للدراسات العليا إلى ألمانيا أومصر كونه حاصلا على امتياز مع مرتبة الشرف، ومن أوائل الجمهورية. الحقيقة أن العزيز ياسر الحرازي، أحد رجال صالح الأذكياء، هو من عرفني على راوح وأدخلني إلى سيارته. سألتقي راوح أمام منزله سنة ٢٠١٣ للمرة الثانية صحبة ولده أيمن، زميلي في ألمانيا. يومذاك قال أيمن لوالده: هذا زميلي مروان طبيب قلب، فيرد عليه راوح: هذا من أفضل الكتاب في البلاد. كنت سعيدا بتقدير مثقف كبير مثل الدكتور راوح لما أكتبه.

وأنا أنتظر استكمال المنحة الدراسية هاتفني الراحل الدكتور حسين عطية، المدير الفني لمشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا، عارضا علي وظيفة طبيب ومدير للوحدة الخاصة VIP Clinic التي افتتحها المشفى ليستقطب الشخصيات العليا في البلاد. كان عطية جاري وصديقي في شرق القاهرة. من خلال الوحدة تعرفت على ساسة وجنرالات لا تزال تربطني بهم حتى الآن علاقة، بعضهم رحل عن الدنيا. كنت على أهبة للسفر، وهو ما جعلني أتجنب اكتراء (استئجار) سكن في العاصمة، ما كنت أريد لإقامتي في صنعاء أن تأخذ وقتا، ولو على مستوى الشعور. سكنت في غرفة تحت الأرض، حرفيا، في قاع اليهود، اسم الحي، لدى صديقي حمود. حمود كان شابا ذكيا يعلم التقانة في كلية المجتمع، وحين يحدثك عن العالم لا يمكنك إلا أن تنفجر ضاحكا.
عدت إلى قاع اليهود في واحدة من الليالي فسألني حمود عن النظارة. تحسست وجهي، ثم ارتبكت وقلت: يبدو أني نسيتها عند الحلاق. كانت نظارة شيك، بلا إطار، حصلت عليها كهدية من سيدة كويتية محترمة وصديقة مبجلة. رحنا، كلانا، نركض علنا ندرك الحلاق قبل أن يغلق أبوابه. في شارع الزراعة، على الجهة المقابلة لسور جامعة صنعاء، كان المحل. الساعة بعد العاشرة مساء، الدكان لا يزال عامرا بالزبائن، الحلاق لم يرد على التحية، زميله يسأل بغلظة “إيش في؟”. قال حمود: صاحبي نسي النظارة هنا، نظارة رخيصة بعشرين دولار وبلا إطار. همست في أذن حمود: النظارة غالية جدا. يرد حمود هامسا: شش، لو قلنا إنها غالية فلن نراها مرة أخرى. حمود أدرى بقاع اليهود وما جاوره من القيعان، فليكن أنها رخيصة. إنكار. جدل. إنكار. أصوات عالية. إنكار. ملاسنة. إنكار. يدخل شاب أبيضاني عليه علامات رفاه قديم. يسأل: إيش في؟ يعيد السؤال بصوت عال، يحكي حمود القصة، أصحح بعض جوانبها كالزمن والمكان والحبكة.
يقترح:
أبي عاقل الحارة المجاورة، تعالوا وسيحكم بينكم. يغلق الحلاق محله ببطء، نذهب في موكب، يلتحق بنا آخرون ممن تجمعوا أمام المحل. نتوغل بين المنازل، يقف الشاب الأبيضاني وينادي على والده. ينزل عاقل الحارة، يجلبون له كرسيا، الرجل بدين وغليظ الصوت، يثبت جسده على الأرض بعصا. تتقافز نساء من منزله إلى الشبابيك ويطفئن الأنوار، ينشغل حمود بالمنظر، ينشغل الآخرون، ينشغل الحلاق. يبدأ الحلاق بسرد الحكاية: حلق عندي قبل ساعتين أو ثلاث، حلقت بعدها لحوالي عشرة زبائن، والآن يقول إنه نسي نظارته عندي. إما أنه ضيعها في مكان آخر، أو أن أحدا من الزبائن سرقها. لدي شاهد. يقترب شاب آخر يعمل معه في الدكان ويقول واثقا: لم نر أي شيء واعتقد أنه دخل المحل من غير نظارة. يلتفت العاقل نحوي ويسألني: أنت متأكد أنك خلعت نظارتك في المحل؟
أرد عليه: طبعا يا حاج، قبل نصف ساعة وليس ثلاث ساعات. يقفز الحلاق مزمجرا: ثلاث إلى أربع ساعات. أتداخل بهدوء قائلا: مش صحيح لأن دوامي انتهى على ثمانية المساء زائد مسافة السكة من شارع الستين إلى شارع الزراعة. يتمهل العاقل، ينظر إلى ما بين قدميه: يرفع رأسه ويسألني: إيش تشتغل يا إبني؟
“أنا طبيب في مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا”
يقول: دكتور؟
أرد عليه: دكتور.
يدور ببطء على كرسيه، يترنح، يوشك أن يقع. يلكز صدر الحلاق بالعصا (الباكورة) وينهره آمرا: هات النظارة حق الدكتور
الحلاق: والله يا عاقل إنه ..
العاقل: هاااات النظااارة حق الدكتووور. بتفهم؟
الحلاق: يا عاقل والله …
العاقل: النظااارة حق الدكتوور.
الحلاق يتلعثم، يقول لرفيقه: انتظر هنا سأذهب إلى المحل لأبحث عنها مرة ثانية (لا أجيد اللهجة الصنعانية، اعتذر).
يعود بعد ثلث ساعة حاملا شيئا في يده ويلوح به. قال وهو يلهث: لقيتها مع ولد صغير في طرف شارع الزراعة.
العاقل يفرد يده مغمغما:. ناهي ناهي.
يناوله الحلاق، ويذهب.
انتظر أن يسلمني النظارة، ينتظر هو أن يخف الحشد.
“إيش رأيك بالحاج؟” يسألني متفاخرا.
“ما شاء الله عليك”

يتلفت يمنة ويسرة، ينادي:
يا محمد سير ادي العلاج حق أمك، نشوف الدكتور لو يقرر لنا غيره، والا يغيره.
قضينا ساعتين، انتصف الليل وأكثر، نخفض نجرعة ونزود جرعة، بينما العاقل يحدثني عن شبابه في وزارة الداخلية، وعن أهمية الأمن والإيمان.

———-
تعليق جانبي:

* الانطباعات قد تصيب، ولكنها تظلم في أحيان كثيرة. المعادلة التي وضعها العاقل “الطبيب صادق، الحلاق كاذب” هي معادلة طبقية غير أخلاقية، وليست بابا للحقيقة. غير أن الأمور جرت على ذلك النحو. شخصيا كل مهنة هي مهنة رفيعة بمقدار إجادتها. الطب السيء، الطب اللصوصي، مهنة وضيعة أو اشتغال قذر. الحلاق الأمين والماهر هو عامل رفيع وفنان.

م.غ.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى