كتّاب

واه يا عبد الودود…


واه يا عبد الودود
الحقيقى والصعيدى
كانت هزيمة يونيو سنة 1967، قاسية وأليمة، مات فيها الآلاف من شبابنا على رمال سيناء، وبعدها صارت معركة الكرامة والثأر همّ المصريين جميعا وقضيتهم الاولى وشغلهم الشاغل، وكانت أغنية “واه يا عبد الودود” التى كتبها نجم نحو سنة 1971، وغناها الشيخ إمام أصدق تعبير عن الرغبة الجارفة فى الثأر واسترداد الكرامة، والأغنية عبارة عن خطاب من أب صعيدى بسيط لابنه المجند تدعوه للثأر لأخيه الذى مات فى سيناء وتشد من عزمه،” ع جولك وانت خابر كل القضية عاد/ ولسة دم خيَك ماشرباش التراب/ وإكنت واد أبوك تجيبلى تار أخوك”، وكانت تلك الاغنية تشعلنا حماسا ووطنية، وأصبحت واحدة من الأغانى التى لابد أن يغنيها الشيخ إمام فى كل حفلاته قبل الحرب…
فى سنة 1970،ألحق المجند “س . م ” بعد ان قضى فترة تدريبه الاولى، بوحدته فى أحد الكتائب الأمامية على خط النار بين مدينتى الإسماعيلية وبورسعيد، شاب حزين دمث الخلق مطيع، قليل الكلام، ومن خلال حديثه القليل عرف زملائه أنه من إحدى قرى مدينة قنا فى اعماق الصعيد، حاصل على دبلوم المدرسة الصناعية، وأن أخيه الكبير “ف . م ” قد مات على رمال سيناء منذ ثلاث سنوات، وأنه لم يتم العثور على جثمانه فظل ثاويا فى مكان غير معروف من ارض سيناء الغالية المحتلة، وكان الشاب الصعيدى يعزف عن حضور “حلقات السمر” التى يقيمها المجندون كثيرا ليؤنسوا أنفسهم ويقطعوا به ليل الانتظار الطويل، فيلهون هم ويرقصون مع أغنيات السمسمية البسيطة والتى تتناسب مع تعليمهم وثقافتهم: “متجوزينى يا امه حاضر ياولدى، حاضر ياولدى/ تنك تقولى حاضر لما خضّر شنبى/ قرعة وبتقول لابوها ودينى الكوافير … “و ” صلى صلى على النبى صلى واللى مايصلى أبوه قرمانلى وامه يهودية” وبينما المجندين يشربون الشاى ويندمجون فى قصفهم ورقصهم وضحكاتهم الصاخبة.
كان صاحبنا يخلو فى العنبر إلى دفتر قديم أودعه خواطره وأفكاره وذكرياته وفيه وبعض الصور التى أتى بها معه من البلد، وتمر الأيام ويأت الدور على صاحبنا للقيام بأجازته الشهرية، فيرفض القيام بها ليبقى فى المعسكر، رغم الفرحة العارمة التى تنتاب زملاءه حين يحصلون على تلك الورقة الغالية “أورنيك أجازة” رافضا فى نفس الوقت إلحاح زملاءه على القيام بالأجازة ليتملى بوجه أمه التى يحبها حبا جما، ويتلذذ “بدكر البط” الذى لاشك ستعده أمه “ليرم به عضمه” ويستمتع بلقاء اصدقاء الطفولة، وشهر بعد شهر يرفض صاحبنا القيام بالأجازة حتى تصور رفاقه وقادته أن رفضه القيام بالأجازة يعنى أحد أمرين، الأول: أن يكون “عليه دم” أى انه شخصيا مطلوب فى جريمة ثأر وانه سيَقتل بمجرد ان تطأ قدماه أرض قريته، وهو ان صح ذلك فقد وجد فى المعسكر والبعد عن بلده فرصة للاختباء بعيدا عن من ينتظرونه ليقتلوه، أما الأمر الثانى: أنه فقير فقر مدقع يجعله فى حاجة لنحو جنيه ونصف سينفقها فى طريق الذهاب والعودة من بلده،
وتمر الأيام ثقيلة وطويلة، يؤدى فيها المجند واجباته على اكمل وجه ويحضر بانتظام ومسؤلية طوابيره وتدريباته ونوبتجياته وينظف سلاحه، وفى ظهر السادس من اكتوبر نفذ أوامر قادته بالاستعداد الكامل وتعمير السلاح، حتى حانت لحظة العبور، فعبر مع الالآف من الضباط والجنود قناة السويس يفتحوا الثغرات فى خط بارليف ويمدوا الجسور لمن يأت بعدهم، ويقتحموا اتون الحرب ويشتبكوا مع الصهاينة بكل سلاح وبالسلاح الأبيض، ويقتحموا النقاط الحصينة والمخابئ التى فى قلب خط بارليف ويقوموا بالعديد من المهام، ويتلقوا الأوامر بالتقدم ويموت منهم الكثير كما يقتلوا من جنود الاعداء الكثيرين ايضا ومرت أيام
وتوقفت أعمال القتال بقبول قرار الأمم المتحدة بوقف الحرب، ورجع الأبطال يتحدثوا عن بطولاتهم ويترحموا على رفاقهم الشهداء، وجاء الدور على صاحبنا للقيام بأجازته، ونودى على اسمه بين الذين سيتسلموا “أورنيك أجازة” وفوجئ زملائه بصاحبنا العازف عن الاجازات يحتضنهم بعنف ويحتضن قادته وهو يقفز قفزات هائلة ويتهلل فرحا وهو يصرخ ويضحك ويبكى فى وقت واحد، ويصيح بأعلى صوته: “أنا جايلك يا أمه، انا جايلك يابا، ابنكم الراجل جايلكم” ويردد تلك الكلمات مرات عديدة، وأعد حقيبته على عجل وباهتمام وودع رفاقه باكيا وخرج، وعلى بعد مئات الأمتار وعلى باب المعسكر استوقفه الأمن كإجراء طبيعى لتفتيش جميع الخارجين من موقع عسكرى، رفض صاحبنا بتصميم وإصرار تفتيش حقيبته البسيطة الصغيرة مهما حدث، وصم أذنه عن قول ضابط التفتيش: يا ابنى انت عارف إن ده اجراء طبيعى لاى حد خارج من الوحدة العسكرية حتى لو كان وزير الدفاع نفسه، وهو يرفض التفتيش بكل عناد، وإزاء إصراره اضطر الحرس للاتصال بوحدته وقائده، ليأت على عجل، والعلاقة بين الجنود والقادة فى المواقع القتالية المتقدمة تكون علاقة خاصة ورائعة تتسم بالصدق والشرف فحياتهم تحرس بعضهم بعضا، وأمام القائد أصر المجند أيضا على ألا تفتح حقيبته، فقال له قائده وكان يحبه حبا جما: إحلف بشرفى يا ابنى أن الحقيبة ليست بها تربة مخدرات، أو قطعة سلاح أو ذخيرة، فحلف الشاب بأنها ليس فيها شئ من هذا أبدا، فقال القائد إذن أحلف أنا بشرفى أنك ستمر، ولكننى أريد أن أعرف ماذا بحقيبتك؟؟.. كان عشرات المجندين قد تجمعوا مع الأخذ والرد والاصوات المرتفعة، وفتح الشاب حقيبته ليجدوا بها رأسا لجندى إسرائيلى محنط “صبًره” الشاب بالملح والشطة وبعض الأعشاب،
…. كان صاحبنا المجند قد وعد أمه وأبيه المحزونين حين ارتدى بدلته العسكرية وتوجه للمعسكر، بأنه لن يعود إلى البلد إلا ومعه ثأر أخيه الشهيد الذى مات وثوى فى مكان مجهول تحت رمال سيناء، وفى سرادق هائل بقرية المجند تقبلت البلد كلها العزاء فى الشهيد الذى مات منذ ستة أعوام.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى