كتّابمفكرون

هذا المقال استغرق مني وقتا طويلا لكتابته، حاولت فيه أن أبرز…


هذا المقال استغرق مني وقتا طويلا لكتابته، حاولت فيه أن أبرز الضرورة الملحة للتنوير في وقتنا الحالي وأهم معوقاته، فاستأذنكم في إعادة نشره.
__________________
“التنوير ضرورة التطوير”
هذا الطرح يضعنا أمام واقع حزين يسود منطقتنا العربية، فالتغيّر المستمر والتطور هو طبيعة الحياة، وعندما يتوقف التطور بفعل الإظلام المسيطر على الحالة العربية، والذي لا يكتفي بالتوقف بل ويجذبنا الي الخلف، يكون التنوير أمرا حتميا لا يقبل التأجيل.

النهضة قرينة الاستنارة، فلا حديث عن صيغة نهضوية تحدث هنا أوهناك في ظل هذه الأوقات الكالحة بغير فعل يجلو الظلام الماثل بيننا وبين المستقبل، هذا الظلام الذي فرض نفسه بفعل الموروث المزيف الراسخ في الثقافة العربية، وهكذا تكون إعادة قراءة التاريخ العربي، واستجلائه هي أولي خطوات العلاج لأزمات العقل العربي في الحاضر وتهيئته للحاق بالمستقبل.

لا يتوقف التنوير عند تحرير العقل، بل يمتد للعمل علي تغيير الواقع، لقد اصطدمت كل الأعمال الفكرية الساعية للتنوير بأصوليات متوحشة كرّست للتخلف ومقاومة التطور، وعززت التناحر المذهبي والأيديولوجي، بل أن صداما كهذا دار داخل العقل الواحد، فيذكر أن “رفاعة الطهطاوي” الذي عرض في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، اثنتي عشرة من أفكار وأطروحات مفكري التنوير الفرنسي، ولكنه وضع التمكن من القرآن والسنة شرطا لقراءتها، لأنها حوت – من وجهة نظره – الكثير من البدع، والحشوات الضلالية المخالفة لسائر الكتب السماوية، وبأدلة يعسر على الإنسان ردّها، هكذا قال، بل أنه حذف فقرات قبل طباعة كتابه، كانت إحداها فقرة تتحدث عن إثبات علماء الإفرنج لدوران الأرض حول الشمس.

إن الأصولية لا تعني فقط إبطال إعمال العقل في النص الديني، فالحقيقة هي أن الأصولية ضد التنوير الذي هو إعمال العقل عموما، ليس فقط في مجال الدين، إنما أيضًا في جميع مجالات الحياة الإنسانية، ويجسد ذلك واقعة محاكمة هيئة كبار العلماء للشيخ علي عبد الرازق، وطرده من زمرة العلماء والحكم بعدم أهليته لشغل وظيفة دينية أو غير دينية، لأنه نفي وجوب الخلافة الإسلامية فأصدر كتاب (الإسلام وأصول الحكم)، وكانت حجتهم، أن الكتاب يحوي أمورا مخالفة للقرآن الكريم والسنّة النبوية وإجماع الأمّة، وهي الحجة الدائم استدعاؤها لمقاومة التطور، والرغبة في إعادتنا لعصور الخلافة الإسلامية وهو نهج كل الحركات المتطرفة كالإخوان المسلمين وحركة داعش وحركة النصرة وغيرهم.

إن إمكانية التنوير تتوقف على مجابهة الأصولية الدينية، والخروج من عباءة الفهم القديم وإجماع الأئمة المسمى بهتانا بإجماع الأمّة، وفتح المجال لإعمال العقل في التأويل واستخراج المعاني الباطنة المجازية للألفاظ دون تكفير، كما قال ابن رشد في كتابه (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال).

أشرت الي أن فتح المجال لإعمال العقل في التأويل (دون تكفير) هو الأساس في مواجهة الجمود والانغلاق الذي يمارسه كهنة الدين بما يشكل سدا حائلا دون الانطلاق الي التنوير، وأشير هنا الي (التكفير) كسلاح ماض أصاب كثير من المفكرين والفلاسفة ودعاة التنوير، مارسته الكنيسة المسيحية في الماضي كما يمارسه رجال الدين الإسلامي الآن، وكما أصاب هذا السلاح مارتن لوثر وأدي الي حرمانه ونفيه، أصاب فرج فودة وأدي الي مقتله، وما بينهما وقع الكثير من الضحايا, ومن ثم فإن نجاح التنوير يعتمد فيما يعتمد علي إحياء فكر ابن رشد بديلا عن فكر ابن تيمية، فعلي الرغم من ظهور ابن تيمية لاحقا لابن رشد وبعد قرن ونصف تقريبا، إلا أن الغلبة كانت للأحدث الداعي لعدم إعمال العقل في أمور الدين، وهو ما يجسد الواقع الأليم لمحاولات التنوير في المنطقة العربية.

لا أهدف الي تصوير التنوير صراعا بين الإسلام والعلم، بين الدين والعقل، بين ضرورة التخلص من الماضي، والنهوض بالمستقبل، فلسنا كالغرب، حتي وإن تحسسنا طريق التنوير علي هدي التجربة الغربية، وعلينا أن نكون مبتكرين لا ناقلين، فمعوقات التنوير في بلادنا لا تشمل جمود الفكر الديني لدي بعض الفقهاء فقط، ولكنها تتعدد في صور أخري منها طبيعة الإنسان العربي ومستواه الثقافي، وجغرافية المنطقة العربية، وأنظمة الحكم السلطوي، والتاريخ الاستعماري الطويل والمستمر بأشكال تتجدد، وصور أخري تتفاوت في أهميتها وشدتها، أنتجت تخلفا علميّا وتكنولوجيّا وفلسفيّا وسياسيا، بل وتخلفا دينيّا ولاهوتيّا أيضا.

عندما اتخذ الفيلسوف الألماني (كانت) شعار (كن جريئا في إعمال عقلك) كان مقصده أن لا سلطان علي العقل سوي العقل ذاته، ولهذا فإن أعمال العقل العربي يجب أن ينطلق الي آفاق رحبة لا تقتصر علي مجال دون مجال، يستشرف فيها إيجاد المخارج والحلول لكل معوقات التنوير، ويستخلص منها ما يتوافق مع طبيعة وظروف المنطقة دون أن يحيد عن هدفه الأكبر وهو تجاوز الماضي، والانطلاق نحو المستقبل، واللحاق بركب النهضة العالمية، ودون الدخول في صدام أو صراع ديني وحضاري مع الغرب، وفي هذا فليكن لنا تجربتنا الخاصة المعبرة عنّا والمحققة لآمالنا.

إن تنامي تيار التنوير في وقتنا الحاضر، بزغ كاحتياج ملح، نتيجة للأحداث والتغيرات السياسية والاجتماعية التي صاحبت ثورات الربيع العربي، وما أدت إليه من تفجّر الحروب والاقتتال والتمزّقات الاجتماعية، والانقسامات الفكرية التي هتكت أستار الثقافة العربية، وأصبحت بعض المدن العربية ميادين لصراعات دموية زاد فيها حجم التخلف والتضليل، وابتذلت الثقافات والفنون، وأدت الي هجرة الملايين من العرب بحثًا عن أوطان جديدة فيما وراء البحار.

يملأني التفاؤل، فلقد وصل المنحني الي منتهاه وليس أمامه سوي الهبوط، فمشكلات الحالة التي يعيشها العرب اليوم، ليست خافية على أصحاب الفكر، بعيدي الرؤية، وانتشار الوسائل الحديثة أنتج ثورة معرفية وعلمية واسعة الأبعاد، وإن كان تفاقم حجم الجهل المتعمد لدي الجماهير العريضة سيشكل المهمة الأولي للتنويريين.

قد يتصور العامة، أن التنوير هو نوع من الرفاهة الثقافية، يتبناها نخبة من المثقفين، ولكن الحقيقة أن الهوة بين حياة من وصلوا الي ما بعد الحداثة في الأمم الغربية، وحياة عموم الناس في منطقتنا المحيطة، قد اتسعت بالحجم الذي يؤكد أننا في مرحلة خطرة، تلقي بظلالها من خلال التناقضات والصراعات والحروب الأهلية، وانهيار الاقتصاد والتعليم والثقافة ومعظم مناحي الحياة.

وهذا بالضبط هو ما كان عليه حال الغرب قبل انطلاق التنوير في القرن الثامن عشر، وهو يصف قدر الفجوةَ التاريخية الكبيرة التي تفصل الفكر الأوربي عن الفكر العربي، ولا أكون متزيّدا عندما أقول إننا بحاجة للعودة زمنيا الي القرن السادس عشر عندما طرحت إيطاليا أسئلة البداية عن الدين؟ وبداية صراع الأضداد الذي جرى في أوربا بين الفلاسفة ورجال الدين المسيحيين.

لم يخلو تاريخنا من أسئلة مشابهة، طرحها ابن المقفع، والتوحيدي، والرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، والمعري، وسواهم عن الدين، ولكن الفارق حدث عندما كان المنتصر دائما هو تيارات الجمود والانغلاق، والسيطرة المحكمة لرجال الدين علي الخاصة قبل العامة، شجعها الحكام الذين وظفوا رجال الدين لشرعنة أهدافهم، واستغلها رجال الدين لنيل المزيد من التميّز والسطوة والسيطرة.

قد يسأل البعض، ولماذا نحمّل الدين وحده أسباب التخلف والانهيار واتساع الفجوة بين الغرب والشرق، وفي هذا فإن العقل العربي خضع وما زال، الي ثنائيات الدين، كالخير والشر، والحلال والحرام، والجنة والنار، …. الخ، ولم يترك له المسافات البينية التي يمكن أن يتحرك من خلالها، حتى أن الفقه رسم وحدد كل تصرفات الإنسان من لحظة ميلاده الي لحظة مماته وما بعدها، وأقنعه أنه بذلك وبما بين يديه الصالح لكل العصور والظروف الزمكانية لا حاجة أخري يحتاجها، فما الحاجة للتطور؟ وهنا يكمن الخطر.

الخطر في أن يقرأ العربي القرآن آلاف المرات، ويترك آلاف الكتب التي تتسع بها مداركه ومعارفه وتطلعه على العالم حوله، وتوجد تفسيرا لآلاف القضايا المبهمة، التي لا تقبل تسليما بأنها خلقت هكذا، ولا تحتاج الي تفسير، كما علمه رجال الدين.

الخطر في إهمال الاستنارة العقلية، فتبقي العقول ضيّقة، وتبقي الطائفية والمذهبية والعصبية، ويبقي الفكر الأحادي السطحي الممل.

الخطر في مظاهر التراجع والتوتر والتناقض، وهي السمات الأبرز في فكرنا المعاصر، بسبب قصر النفس، وقصور فهم الظواهر التاريخية المركبة، التي تدور من حولنا، فنلجأ الي ظاهر المؤامرة الكونية الموجهة لنا، حتى نكفي المؤمنين شر التفكير والتعقل وفهم الأشياء على حقيقتها.

إن انتشار تيارات التطرّف، وتيارات التكفير والعنف في ثقافتنا ومجتمعاتنا، يمنحنا مناسبة تاريخية تلح علينا لأن نبدأ معركة التنوير، والإصلاح الثقافي، والإصلاح الديني وكشف فقر ومحدودية وغربة التفكير التي أنتجت هذه التيارات المدمرة.
#بالعقل_والهداوة

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Sameer Zain-Elabideen سمير زين العابدين

خريج الكلية الحربية فبراير 1969, أعمل حاليا في النظر حولي وأشياء أخري, عقلي هو إمامي ورئيسي

‫6 تعليقات

  1. أحيى حضرتك على هذا المقال الذى اصاب كبد الحقيقة ووضع الجميع أمام تغيير مفاهيم خاطئة ترسخت فى العقول وآن الأوان لتصويبها وتضافر الجهود بضرورة التغيير إن كنا جادين فى الحفاظ على وطن ودين وعقيده أمتدت إليها أيادى وعبثت فيها عن قصد فضحها مقال حضرتك المقدر .

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى