كتّاب

مروان الغفوري | التقينا في الممر، ممر طويل لا يحتاجه سوى اللصوص والإطفائيين.

التقينا في الممر، ممر طويل لا يحتاجه سوى اللصوص والإطفائيين. الأرض مخططة، على الخطوط الحمراء سيمر مرضى كورونا. سألتها إن كان كل شيء معها على ما يرُام فنظرت إلى سقف الممر مبتهجة "باقي ساعة". واصلنا المشي، الكتف إلى الكتف، قالت "أو أقل من ساعة".
* ثم؟ سألتها.
ـ ستبدأ إجازتي. اسبوعان كاملان. لا بد وأن أفصِل كل هذه الكابلات عن دماغي لبعض الوقت [وهي تشير إلى العالم].
* ستسافرين بعيداً؟
ـ لا، سأبقى في منزلي. أبنائي كبروا وتركوني. لم يعد لديّ من خلّ وفيّ سوى الكلب.
* سافري مع الكلب، إذن.
ـ أوه، كلبي لم يعد يقوى على السفر. صار كهلاً كبيراً، يبلغ من العمر 13 عاماً. إذا وضعته في سيارة لمسافة طويلة فإن آلام الظهر ستفتك به.
* آلام الظهر؟
ـ يعاني كلبي من متلازمة كودا إكوينا [مرض يصيب القناة الشوكية أسفل الظهر]. المسكين أتعب روحي. عندما أعود إلى منزلي في المساء يقفز لاستقبالي غير آبه بألمه، وحين أرى حركة ذيله فإن ذلك عندي بكل هذه الدنيا. أنا متألمة ، على الدوام متألمة لألمه.
* ولماذا لا تسلمينه إلى السلطات وتحصلين على كلب جديد؟
– أتعني هذا حقاً؟ سألتني، وتوقفت. كما لو أني حاولت أن ألقي بها من شاهق. تداركت الأمر:
* ليس بالضبط، ولكن هل فكرت بالأمر.
– مطلقاً. ذاكرتي وأيامي معه. كيف أتخلى عن كل ذلك. يوماً ما يصبح الحيوان جزءاً من روحك. هل جربت هذا؟ حين أفكر باليوم الذي سيموت فيه يداهمني الرعب. أتحسس ظهره كل صباح وحين يفتح عينيه أهمس لنفسي الحمدلله، لا يزال على قيد الحياة. أغادر منزلي وقد غمرتني السعادة لباقي اليوم.
* بمقدوري تفهّم ذلك. كان لدي قط شيرازي في مصر، أسميته سارتر. [ذهبنا إلى مكتبها وحدثتها عن سارتر]. قلت لها إن الجنود احتجزوه في مطار صنعاء، وبقينا نبحث عنه حتى طلع الفجر. ثم خرج جندي أشعث من غرفة كئيبة وسألني "القط الأبيض حقك؟". قال إنه خبأه في مكتبه وغادر لبعض الوقت. و أنه لم يخبر أحداً لأنه كان ينتظر أن يرى خواجه، أي خواجه. وبما أنه شاهد عرباً أمامه فقد بدا له الأمر غريباً بعض الشيء، ومقززاً إلى حد بعيد.

أما هي فأخبرتني عن الأمور التي فعلتها لأجل كلبها، ولآلام الظهر التي يعاني منها.
قالت:
"عرض علي الأطباء أن يجروا له عملية جراحية. رفضت الأمر بسبب سنّه. ألحقته بمركز للعلاج الطبيعي، وصار يحصل على جلسات منتظمة. جلسات مستمرة، وعلاجات للألم. تحسن بعض الشيء غير أن الآلام عاودته، فصرت اصطحبه إلى جلسات بالإبر الصينية. حصلت على عرض جيّد، لاحظت أن الإبر الصينية ساعدته بالفعل. نصحني الأطباء بسرير خاص بالكلاب المصابة بآلام الظهر. طلبت له السرير، أظنه يرتاح حين يستلقي عليه"

شالت نظارتها ومسحتها، نظرت إلى الشاشة الواقفة أمامها ثم إلى الكيبورد. واصلت حديثها:
"طلبتُ له أحزمة خاصة من أميركا. أحزمة عريضة وواسعة وتعطي دفقات من الحرارة على أوقات. أظنها أفادته أيضاً. ربما أفادته. أعرف ذلك من حركة ذيله".
* عظيم، عظيم. هل يتحمل تأمينه كل هذه التكاليف؟
– بالطبع لا. هل جننت؟ أنا أدفع أغلب هذه الأشياء. قبل نصف عام أخذته إلى مركز للنقاهة والتأهيل. قضى هناك شهراً كاملا، وكنت أزوره من وقت لآخر. قضى أوقاتا رائعة، وحين كنت أزوره كان يركض ويحاول أن يقفز الأسوار. كان رائعاً عندما كان طفلاً، أما وقد أصبح كهلاً فالعظمة تملأ عينيه.

توقفت عن الكلام.
سحبت كومة أوراق من طرف طاولتها العريضة، وقالت كأنها تهذي:
"يكبر في السن، لا يمكنني تغيير ذلك. أنا أيضاً أكبر في السن. ويوماً ما ستضع الطبيعة أو الخالق، سم الأمر ما شئت، حداً لكل هذا، للألم وللسعادة"

ـــــ

من حوار مع سيدة ألمانية بالأمس.

ـــــ

م.غ.

مروان الغفوري | كاتب يمني

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى