مدرسة المتفوقين…


مدرسة المتفوقين

كانت مدرسة المعادى الثانوية النموذجية تتكون من مبنيين، كل منهما على شكل U، و بينهما فناء. المبنى الجنوبى كان يشمل الإدارة والفصول، و المبنى الشمالي كان مسكن التلاميذ، أو “الداخلية”. كانت المدرسة موجودة قبل أن تظهر فكرة إنشاء مدرسة للمتفوقين، و كانت كلها داخلية، ربما إقتداءاً بمدرسة إيتون فى بريطانيا. و كما هو الحال فى إيتون، كان أغلب التلاميذ من عائلات قديمة ثرية.

لكن لم يكن من أولئك فى مصر ما يكفى لملأ مدرسة، لذلك كان الجناح الشرقي فى كلا المبنيين فارغاً، و قررت الحكومة الثورية (التى كان عمرها سنتان) إستخدامه مؤقتاً لمدرسة للمتفوقين. وهكذا صارت مدرسة المعادى مدرستين فى نفس الموقع – المتفوقون لهم فصولهم و عنابرهم، و “العاديون” لهم فصولهم و عنابرهم.

لم يكن العاديون يكنون لنا الكثير من المودة، بل كانوا يسمونا “الصمامين” و “الكحّيته” و غير ذلك من الإهانات. عندما أتفكر فى إنطباعاتي القديمة لا أعتقد أنهم كانوا هناك للدراسة، بل لأغراض أخرى (إبعادهم عن الضيعة، مثلاً.) ولا أذكر أن أحدهم طلب منى أو من غيرى أبداً مساعدة فى حل مسألة أو فى شرح أية مادة من المواد.

ما أن تركَنا أولياءُ أمورنا فى تلك البوتقة حتى إشتعلت بيننا منافسة شرسة و كأنك وضعت مئة من الديوك فى حظيرة واحدة. و كان الأول علينا دائماً تلميذ من القاهرة إسمه محمد بهائى السكرى. لم يكن بهائى إجتماعياً، حتى أننى لا أذكر بوضوح ما إذا كان مقيماً معنا فى الداخلية أو مع أسرته فى المدينة. قابلته بعد تخرجنا مرة واحدة فى حفلة مرور ١٠ سنوات على التخرج، وكان قد أصبح طبيباً.

كانت تصل بين جناحي الداخلية ڤرانده شاسعة تمتد بعرض المدرسة كلها و تواجه القاهرة. كان الهواء فى ذلك الزمن نقياً، وكنا نرى مصر القديمة من الڤراندة بوضوح، فلم يكن يفصلنا عنها سوى حقول مترامية. فى بداية السنة الثانية إندلعت حرب السويس، و كانت تلك الڤراندة بمثابة منصة شاهدنا منها طلقات الدفاع الجوي و هي تضيئ السماء فوق القاهرة. و فى الصباح صرَفَنا الناظر ليذهب كل ٌإلى بلده. ما زلت أتعجب من رعونة ذلك القرار، فقد كنا مجرد أطفال تتراوح أعمارنا بين ١٣ و ١٥ سنة. و كانت الفوضى فى الشوارع إحتمالاً وارداً. و ربما لم يكن لدى البعض من النقود ما يكفى لتذكرة القطار (إلى أسوان، مثلاً).

كان أخى فى ذلك الوقت طالباً فى هندسة عين شمس و يسكن فى ميدان العباسية. إستغرقت رحلتى من المعادى إلى ميدان العباسية من ٨ صباحاً إلى ٨ مساءاً. فالترام كان يتوقف كلما صرخت صفارات الإنذار. و تلك كانت تصمت للحظات فيتحرك الترام عدة أمتار، ثم تندلع من جديد فيتوقف. أذكر أن الطائرات كانت تحوم فوقنا على إرتفاع منخفض مثل غربان سوداء عملاقة. لا أعرف ما إذا كانوا قد دهنوا بطونها بطلاء أسود لترويع المصريين، أم أنها بدت سوداء على خلفية السماء الساطعة.

لم تستمر الحرب طويلاً، و عدنا إلى المدرسة لنواصل منافستنا الشرسة. كان طاقم التدريس ممتازاً. لكنى للأسف لا أذكر منهم بالإسم أحداً سوى الدكتور طه حسين مدرس الفنون التشكيلية، الذى كان فناناً عظيماً و صار فيما بعد عميداً لكلية الفنون التطبيقية؛ و حمزه بك (*) وكيل المدرسة، لأنه إصطحب وفداً منا مكوناً من ١٠ تلاميذ إلى معسكر صيفي للرواد فى بلغاريا. و كنتُ من ضمن ذلك الوفد.

كانت تلك أول مرة سافرتُ فيها بالطائرة و رأيت بلاداً غير مصر. الطائرة كانت مروحية و بطيئة، أوصلتنا (بالعافية) إلى أثينا، حيث بتنا ليلة ثم ركبنا طائرة أخرى إلى صوفيا، حيث بتنا ليلة ثانية، ثم طائرة ثالثة إلى مدينة ڤارنا على البحر الأسود. (هذه الرحلة تستغرق الأن ساعتين أو ثلاثة لا غير.) كانت تلك أيضاً أول مرة أختلط فيها مع أولاد و بنات أوربيين (من ألمانيا و روسيا و المجر و پولندا … إلخ،) لمدة شهر بأكمله. أما حمزه بك، (الذى كان من طبقة أخرى،) فيبدو أنه كان معتاداً على تلك الأمور.

كان فى المعسكر أيضاً وفد من إسرائيل نصفه أولاد و نصفه بنات. و أذكر دهشتى من كونهم مثلنا أطفالاً أبرياء كسائر “أولاد ناس”. فقد كنا مبرمجين على تصورهم كائنات غريبة مشوهة.

ربما كان العاديون محقين فى نعتنا بأننا “كحّيته”، فعندما ظهرت نتيجة الثانوية العامة سنة ٥٨ كان ثلاثة منا ضمن العشرة الأوائل، و كثيرون ضمن المئة الأوائل. ثمانية من تلك الدفعة (كنت منهم) أختيروا للدراسة فى روسيا بعد الثانوية العامة ضمن بعثة تضم ٣٠ طالباً (**). سافر بالفعل ٢٧، مات منهم واحد غريقاً فى بحيرة قرب موسكو. (الله يرحمه.) و آخر حاول الإنتحار و أنقذوه، ثم أرجعوه إلى مصر (***).

هذا الپوسط يسرد أحداثاً جرت منذ حوالي ٧٠ سنة. و الحمد الله على أنى أذكر منها ما ذكرته.
__________________________________
*) الراجح أن حمزه بك كان “بك” بحق و حقيق قبل إلغاء الألقاب، فمظهره و سلوكه كانا يوحيان بذلك، كما أنه كان يمتلك سيارة. (فى الخمسينات كان ذلك أمرا بالغ الندرة.)
**) كانت الإتفاقية تنص على تكرار ذلك كل سنة. لكن مصر غيرت رأيها و ألغت هذا البند بعد السنة الأولى، فكانت مجموعتنا أول و آخر مجموعة تمر بهذه التجربه.
***) تبين أن هناك مرض نفسي يربط بين الإغتراب و محاولة الإنتحار. ما أن عاد زميلنا إلى مصر حتى إستأنف حياته على نحو طبيعي.

يمكنك دعم الموقع من هنا
مؤسسة ندى لحماية الفتيات

Exit mobile version