مفكرون

حسين الوادعي | العدل إذ يستوجب اللامساواة في الدين والدولة:…

المرأة ومسألة الميراث نموذجاً!
………………………
لا أدري ما الذي يجعل الثقافة العربية مهتمة باصطناع تعارضات بين قيم متناغمة لا تعارض بينها.

سبق أن اصطنعنا تعارضاً بين الديموقراطية والعدالة، أو بين الديموقراطية السياسية والديموقراطية الاجتماعية بحسب مصطلحات حقبة نشوئها وقلنا إن الثانية أهم من الأولى ولا بد من الاختيار. واصطنعنا تعارضاً بين الأمن والحرية وقلنا إن الأمن القومي والسياسي والثقافي والاجتماعي، لن يحصل إلا بتقييد أي أصوات تبدد طمأنينية هذه “الأمنيات” وتوقظها من سباتها. وها نحن اليوم نصطنع تعارضاً جديداً بين العدالة والمساواة.

فعندما أراد الرئيس التونسي قيس سعيد شرح موقفه الرافض لإقرار حق المرأة في مساواتها الرجل بالميراث، قال إنه اختار العدالة ولم يختر المساواة!

هذه العبارة لم تأتِ من فراغ، فالمعركة الوهمية للتعارض بين العدالة والمساواة قديمة، وأول شكل من أشكالها تلك العبارة التي اشتهرت على لسان الشيوخ ومن تأثر بهم: “الإـ///ــلام دين العدالة لا دين المساواة”!

وكان استخدام هذا الشعار محاولة دفاعية لتبرير السياسات التمييزية في بعض التشريعات الاـ///ــلامية تجاه المرأة وبخاصة في الميراث والشهادة والزواج والطلاق والسفر، وتجاه الأقليات وبخاصة في الحقوق المدنية والسياسية.

الفريق الذي يردد من دون تفكير أن الإـ///ــلام دين العدل لا دين المساواة، هو نفسه على الأرجح الذي يفتخر بأن الاـ///ــلام ساوى بين جميع البشر وأن لا فرق بين عربي وأعجمي ولا غني وفقير إلا بالتقوى!

لكن قضية التعارض بين العدالة والمساواة ليست قضية إـ///ــلامية أو عربية خالصة، بل هي بحد ذاتها استيراد مزيف لقضية جدلية وعميقة في الأدبيات الغربية عرفت بالجدل بين المساواة equality والإنصاف equity.

وكان سبب النقاش أن سياسات المساواة بين الرجل والمرأة وبين الأقليات والأعراق المختلفة، لم تؤد إلى تذويب الفوارق بين طبقات المجتمع وفئاته. فما زال البيض مثلاً في وضع أفضل من السود تعليمياً واقتصادياً، كما لا تزال المرأة غير قادرة على اللحاق بالرجل حتى في الدول الأكثر انتصاراً لحقوق المرأة.

تظاهرات “حياة السود مهمة” جاءت على خلفية هذا التفاوت الناتج عن موروث طويل من التفاوت الاجتماعي المتراكم. فالأميركي الأسود مثلاً يتمتع بكل حقوق المواطنة التي يتمتع بها الأميركي الأبيض، ولديه، نظرياً، الحقوق ذاتها للحصول على التعليم والعمل والرعاية الطبية. لكن هذه المساواة في الحصول على الفرص لا تعني أن الأميركي الأبيض والأميركي الأسود يصلان إليها بالدرجة ذاتها والسهولة ذاتها. وهذا ينطبق أيضاً على المرأة المقيدة بدورها المزدوج داخل البيت وخارجه، والثقافة المحافظة في بعض المناطق وغياب سياسات تحميها من الاستغلال، ما يجعلها متأخرة عن الرجل حتى ولو كانت قانونياً ودستورياً متساوية معه..

استمرار ظاهرة التفاوت جعلت كثيرين في الدول المتقدمة يرون أن المساواة وحدها لا تكفي، بل يجب تطوير منهج آخر، هو منهج الإنصاف أو العدالة. ومنهج الإنصاف لا يلغي المساواة كما تم نقل القضية إلى الساحة الفكرية العربية، بل إن الإنصاف لا يحصل إلا بين متساوين في الحقوق والواجبات ولا يمكن تحقيقه إلا بعد المرور بمرحلة المساواة. فالقاضي العادل، مثلاً، لا يكون عادلاً إلا إذا آمن بأنه يحكم بين متساوين أمام القانون.

على سبيل المثال، تقوم سياسة المساواة في التعليم على حق كل الأطفال في الحصول على تعليم جيد ومتساو، للحصول على التعليم الأساسي على الأقل. لكن لأن المساواة تُطبّق بين أطفال من خلفيات اجتماعية مختلفة، فمنهم الفقير ومنهم الغني، ومنهم المواطن ومنهم المهاجر المستجد، فإن المساواة تخلف فراغات يتخلف فيها أبناء الفقراء والمهاجرين مثلاً عن غيرهم من الطلبة.

لمعالجة هذه الفراغات لا بد من توظيف سياسة الإنصاف. بمعنى أن المساواة تظل مستمرة، ويظل الطلبة حاصلين على الحقوق ذاتها في الوصول إلى الخدمات التعليمية، لكن إلى جانب ذلك لا بد من وجود نوع من التحيز الإيجابي تجاه الطلبة ذوي العائلات الفقيرة، بحيث يتم تخصيص مقاعد معينة أو تقديم إعانات مالية لهم ليتمكنوا من اللحاق بأقرانهم من أبناء الطبقات الأخرى.

هذه هي الخلفية التي ظهرت فيها قضيتا المساواة والإنصاف في العالم. لكن كيف تم استيراد هذه القضية إلى العالم العربي؟

تم استيراد القضية عربياً وإـ///ــلامياً بشكل تحريفي متعمد قائم على أن الناس غير متساوين لا قانونياً ولا دستورياً. وأن هذه “اللامساواة” أصيلة وثابتة لا يمكن التغلب عليها، بخاصة أنها مسنودة ببعض النصوص الدينية التمييزية.

وبدلاً من التكامل بين سياسات المساواة والإنصاف، طرحت القضية في الثقافة العربية الإـ///ــلامية على شكل التعارض المطلق بين المساواة والإنصاف، وبأن المساواة “ظالمة”، لأنها غير طبيعية وتحاول تسوية من خُلقوا مختلفين!

ولأن الإنصاف لا يمكن فهمه فهماً صحيحاً إلا في إطار الإيمان بالمساواة، فقد تحول الإنصاف كما يطرح في الثقافة العربية اليوم وكما طرح في خطاب الرئيس التونسي إلى نوع من الظلم المؤسس على الدين والوضع الاجتماعي. فلأن الرجل يصرف على البيت، بحكم أن المرأة محرومة من فرص العمل والدخل، فإن العدالة بحسب هذا المنطق هي أن تُعطى المرأة نصف ميراث الرجل، لأنها أقل منه اقتصادياً واجتماعياً. وهذا فهم وتطبيق معكوس للإنصاف، لأن فكرة الإنصاف هي المساواة بين المختلفين، لا تكريس الاختلاف وزيادة التفاوت.

لهذا لو أردنا فعلاً تطبيق سياسة الإنصاف على قضية الميراث، فإن هذا يستدعي مرحلتين. المرحلة الأولى هي مرحلة المساواة، أي تعديل القوانين لتنص على حق المرأة في الحصول على ميراث يتساوى مع نصيب الرجل. وبعد سياسة المساواة تأتي سياسة الإنصاف، وهي تتعلق لتقليص الفجوة بين الرجل والمرأة وهذا يقتضي التمييز الإيجابي لمصلحة المرأة في ما يتعلق بالميراث، وتعطى فرصاً اقتصادية أكثر من الرجل في بعض الحالات!

هذه هي النتيجة التي كان يفترض أن نصل إليها لو ناقشنا قضية الميراث ضمن مفهومي المساواة والإنصاف. لكن تم عكس القضية في النقاشات ليصبح العدل هو الظلم، ويصبح الإنصاف هو تعميق الاختلافات في القوة والثروة بدلاً من تقليص الفجوات بينهما!

مرة أخرى نعطي الكلمات معاني تتناقض تناقضاً تاماً مع جوهرها، ونتجرأ وحدنا على رفض فكرة المساواة بعدما صارت أساس حقوق الإنسان وتأسيس الدول ووضع القوانين. “نحن لسنا أمة مساواة بل أمة عدل وإنصاف”، هكذا حُسمت المسألة وصار العدل هو استمرار التفاوت بين المتفاوتين تحت حماية القانون والدين والتقاليد.

الهدف الأخير من الإنصاف هو المساواة، بمعنى أن الهدف منه هو التقريب وليس التفضيل. لهذا ظهر شعار يقول إن “العدل هو المساواة في النتائج”Equity is equality in the outcomes ، والأمة التي تخسر قضية المساواة تخسر بالضرورة قضية العدل والإنصاف.
………………………………
نسر المقال على موقع Daraj Media

على تويتر
[elementor-template id=”108″]

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى