مجتمع الميم

دو نو هارم – Do No Harm – My Kali


in English

كلمات: ماجدة محاسنة
العمل الفني: لينا أ

هذه المقالة حصيلة ورشة عمل المجلة للكتابة

*مبدأ أساسي في إطار العمل الإنساني وينص على وجوب التراجع عن تقديم مساعدة إنسانية ما لم يتم النظر إلى وتقييم السياق الأوسع للحالة سعيًا لتخفيف الآثار السلبية المحتملة. 

يأمل الفرد منّا؛ أي أولئك الذين اختارهم الظرف ليعملوا كموظفي قطاعات حكومية وخاصة؛ بأن تحنو عليهم المطحنة وتترك لهم مساحة بين طيّات المهام “المتلتلة” يسألون فيها أنفسهم: “هل أنا بخير؟”. هي آلة طاحنة، ويبدو بأنها أداة العالم الرأسمالي الأكثر هيمنة في مختلف القطاعات، تسطّح وجود الموظّفين في بيئة العمل محكومين فيها برضا العميل، أو إنجاز المهام، أو الوصول إلى ما يسمى ب “التارغت”. لا شك أن لكل مطحون منّا قدرات خاصة ومع مرور الوقت تصبح مهارات تملّص وأحيانًا تكيّف مع ضغط المطحنة وتأثيرها علينا. منّا من يفلت من ضغطها بخفّة المراوغ، ومنا من ينتهي به المطّاف مواجهاً احتراقه النفسي في بداية كل يوم عمل، باصماً تأثيره على جهاز البصمة القابع بانتظاره داخلاً وخارجاً.  

في خضم بحثي عن تأثير منظومة العمل على أربابها ومرؤوسيها؛ وجدت في إطار العمل الإنساني فضاء شاسع أرتجيه لسبر العلاقة بين القصص البشرية المسموعة وتأثيرها على خطوط الاستقبال الأولى من العاملين في المنظمات الإنسانية في الأردن. التقيت باثنين من موظفي منظمات دولية ومحلية، واستطرد كل منهما في الحديث عن تجربة العمل الإنساني وتأثير التعامل اليومي مع “الحالات” على حياة كل منهما، مغيّرة مسار واحدة ومؤكدة على أخرى. 

تعمل هدى في إدارة حالات الناجين من العنف المبني على النوع الاجتماعي، واحد من أشكال العنف التي تتعرّض لها النساء بنسبة لا تقارن بالرجال في المجتمعات المستضيفة واللاجئة على حد سواء. وفقاً لإجراءات العمل الموّحدة التي تعمل منظمات العمل الإنساني على ضوئها في الأردن؛ يعّرف العنف المبني على النوع الاجتماعي بأنه “أي فعل مؤذي مرتكب ضد إرادة الفرد يستند إلى ما ينسبه المجتمع من فروقات بين الذكور والإناث”1
. عليه، لم يكن من المفاجئ أن هدى نفسها هي ناجية من العنف ذاته قبل انخراطها في العمل الإنساني، ما جعلها عرضة لمواجهة صدماتها النفسية السابقة وجهاً لوجه، مستذكرة تفاصيل مشابهة في طيّات مئات القصص التي سمعتها من ناجيات أخريات. توكيدات يومية لحالة من التلاحم البشري غير المخطط بين قصص تشابهت بقسوتها؛ فراهنت على صلابة هدى النفسية؛ لتنجح بدورها في تمكين من لا حيلة لهم. في حين لم تبذل المنظمة الجهد الكافي لتقديم برامج متخصصة بالعناية في الصحة النفسية ضمن إطار زمني مدروس وملائم لطبيعة عمل أفرادها، فقدّم لهدى جلسة عناية نفسية منذ سنة مقابل العديد من التدريبات التقنية التي تبني قدرات العامل كي يتعامل بحساسية أعلى مع “الحالات”.  

أكّدت هدى بدورها بأن الضغط الواقع عليها من الإدارة بشكل مباشر أو غير مباشر، وتعاملها اليومي مع المعنفات من النساء، ومضاهاة المهام المطلوبة لساعات العمل في المكتب أو في الميدان ساهم في حالة من الإرهاق النفسي، حيث أثّرت الضغوطات اليومية التي تفرزها أوساط العمل ضمن إطار الاستجابة في حالات الطواريْ على نوعية الخدمة المقدمة. أقرت هدى بأن هناك مستفيدين لم يتلقوا من خلالها الخدمة الكافية بسبب القدرة المحدودة جدًا آنذاك على تشكيل فهم أكثر صحّة وشمول لماهية الحالة قائلة “برد على التليفون على الحالة، ما في طولة بال اسمعها وأتفاعل معها (…) كنت بفترة معينة اشتغل بالبيت عشان ألحق تارغيت! ونتأخر بالمكتب. ما في توازن. ما بقدر أقسم يومي بين العمل وبين وقت إلي”2

تجربة نادر كانت مختلفة، يعمل مع منظمة محلية بمسمّى “عامل وصول” ضمن أنشطة حشد مجتمعي وتشبيك. تجربته على مدار السبع سنوات الماضية جعلته أكثر قرباً من تحدّيات أفراد مجتمع الميم؛ فغدت مساعدته لهم على نطاقات شتّى مصدر شحن ذاتي يستنهض بها وجوده، ويكرّس بتأثيرها الإيجابي وقته خارج ساعات العمل، لتصبح نمط حياة يعيشه بتفرّد ورضى، غير مكترث لبرامج دعم نفسي مخصصة له. ما يهم وما هو أولوية هو أن صوته مسموع، وأن الإدارة في العمل تحتفي بوجوده وتقرّ بدوره الفاعل. 

نظراً لحساسية العمل مع أفراد مجتمع الميم ووفقاً للتحديات التي تتعرض لها المنظمة التي يعمل فيها نادر؛ فإن من المهم التأكد بأن المكان وما يقدمه من خدمات يتبنّى بفاعلية المفاهيم والمبادئ التي يقتضيها العمل الإنساني بشكل عملي وممنهج، ولا يقتصر فقط على التنظير وإدراج ذلك في مدونات السلوك وسياسات الحماية. تلقّى نادر مجموعة من التدريبات، مشيداً بالجهود المبذولة “عملنا self-care لمدة ٣ أيام، أخدنا فيه عن الصحة النفسية. عملنا تنفس عميق، محاكاة، تمثيليات، اتقمصنا شخصيات وأدينا أدوار”. خلق مساحات بعيدة عن المكاتب والأوراق ومراكز استقبال المستفيدين ضرورية لموظفين يحملون الكثير من تداعيات العمل مع الناجين من العنف والإساءة. برامج العناية بالصحة النفسية للموظفين تشمل الخوض بنقاشات جمعية عن تحديات العمل، المشاعر المتعلقة بالتجارب اليومية مع المكان والمنظومة والمستفيد نفسه ستفضي بالضرورة لتوصيات ودروس مستفادة في مشاريع ومراحل قادمة يكون فيها الموظف وراحته النفسية في أعلى هرم الأولويات. عبّر نادر عن حاجته للحديث مع الأخصائية النفسية داخل المنظمة حينما شعر بفيض من الضغط النفسي نتيجة لتعلّق أحد المستفيدين به “بلجأ للأخصائية النفسية لأنه تعبت من حالة معينة. خاصة بس شخص منهم يطلب صداقتي”. بالرغم من ذلك، فلدى نادر تسامح أكثر مع قصور الإدارة في تسخير برامج العناية بالصحة النفسية. عشاء في مكان ما، وقت نوعي يقضيه الفريق بعيداً عن أجواء العمل كفيلة بشحن طاقته وإشعاره بالانتماء للمكان وزملائه وإدارته حتى. وجود زملاء داعمين ومتفهمين كان أهم ما يحافظ على صحة نادر النفسية وارتياحه بالعمل حتى وان تعرّض بطبيعة الحال لضغط “التارغت” من قبل إدارته معبّراً “مرات بتعب كتير من الضغط، بدهم حالات وورشات وأنا كنت جدا مرعوب من كورونا”.3 حُب نادر للعمل مع المستضعفين وأصحاب الحاجة تجاوز حدود المنظومة التي يعمل بها، ليقوم بمساعدة الحالات بشكل آمن إنما غير رسمي؛ من تأمين فرص للعمل والتدريب، إلى إحالة لأطباء وعيادات متخصصة. كان المتأثر الوحيد بانخراط نادر في عمله لحدود قصوى هم أصدقائه الذين يشكون انشغاله الدائم عنهم. 

تسامُح نادر مع تقصير إدارته في ما يخص صحته النفسية كان أقل وطأة وثقل من التقصير الذي يلمسه بشكل مستمر جرّاء منهجية الإدارة مكبلة الأيدي في تأمين خدمة نفسية مستمرة وذات طابع مهني للمستفيدين من مجتمع الميم. عبّر نادر أسفاً عن عدم رضاه المطلق عن المعالجيين النفسيين (المتدربين) الذي يتم توظيفهم للتعامل مع الحالات المختلفة والشائكة المتعلقة بتداعيات تعامل أفراد مجتمع الميم مع دوائر اجتماعية من الأهل والمجتمع، نادر معقّباً “المعالج النفسي المتدرب قاعد بياخد خبرة بس وجودهم بكون عائق، بعرف بعنيهم وكلامهم انه بينقصهم الخبرة والمعرفة بمجتمع الميم (…) غير عن البلبلة والثرثرة اللي بتصير بعد ذلك (…) المستفيدين عم بكونوا فئران تجارب”. حجم الضغوطات والتحديات التي يتعرضون لها تقتضي جلسات عديدة ومتابعة مكثّفة؛ لكن واقع الحال حال دون ذلك، معبّرا نادر “جلسات الدعم النفسي لازم تكون أكتر من هيك، انه الواحد يجي ساعة أو ساعتين هذا غير كافي،لازم يكون في فترة كافية وطويلة جداً للمتابعة النفسية، مش جلسة أو جلستين أو ثلاثة وبس (…) ما في استمرارية!”  

عندما سألت هدى عما إذا كان هناك برامج مخصصة للموظفين تعتني بصحتهم النفسية ضمن إطار زمني واضح، فكانت الإجابة تتعلق بالأشخاص أنفسهم (الإدارة) وليس المنظومة، مجيبة: “ما في وعي بأهمية الـ self care للموظف من الإدارة نفسها. لو كان في وعي أو نظام ثابت كان أكيد حيكون في قسم خاص للعناية بالموظف أو في تشبيك مع منظمات أخرى. حسب مين المسؤول مش لأنه في نظام ثابت”4.

يستمر ضغط العمل في معظم الأحيان، دافعًا كل من هدى ونادر لخلق طرق تكيّف وتفريغ نفسي خاصة بهم. التعامل مع المستفيدين وما يتطلبه من تواصل فعّال وحقيقي يقتضي الانصات جيداً إلى إلحاح الجسد والذهن في طلب الراحة والتجاوب مع ذلك الإلحاح بيقظة. تلجأ هدى لطرق بسيطة وغير مكلفة ومعظم الوقت غير ملموسة قائلة “بمشي، بسمع موسيقى، برجع أعمل أنشطة قديمة وأشوف إذا إلها تأثير علي متل قبل، أرجيلة، رقص، بكاء بريّح شوي، بحضر فيلم كوميدي أبعد شوي عن موود الشغل”. في حين أن نادر يستمر بشحن طاقته من خلال تعامله الكثيف مع المستفيدين “(…) كل ما بساعد وبكتشف انه الحالة اجتني ووثقت فيي؛ بصير راسي كبير من السعادة والفرح”.

يقع على عاتق الموظّف استيعاب تعاقب الإدارات عليه، خاصة وأن العمل ضمن مشاريع مموّلة من جهات خارجية يعني بالضرورة انعدام الأمان الوظيفي في حالة عدم الحصول على تجديد للمشاريع القائمة أو في حال رفض الجهات المانحة لمقترحات مشاريع تم العمل عليها لأشهر آنفة بدافع التوسّع والوصول لمستفيدين وأصحاب احتياجات مختلفة لم يتم الوصول لهم مسبقاً. يأتي ذلك ضمن تغيّرات أخرى مثل إعادة هيكلة الفريق (restructuring) في حالات التقليص (downsizing)، أو العمل على تأمين رواتب الموظفين الحاليين عِوضاً عن السعي لمحاكاة احتياجاتهم المتعلقة بالصحة النفسية جرّاء طبيعة العمل وحساسيته.

تحتاج الإدارات الثابتة والمتعاقبة في منظمات العمل الإنساني بأن تولي جل اهتمامها للمساهمة في تحسين أدائها، والعمل بمنهجية على تصميم برامج تدريب بأطر زمنية ثابتة تسعى من خلالها في الحفاظ على صحة الموظف النفسية.

في ضوء مقابلاتي مع هدى ونادر، تبيّن أن تحدياتنا كبشر؛ موظفين كنّا أم مستفيدين تتقاطع وتتشابه. مراكز الاستقبال هي مساحات يُسقط فيها العاملين والمستفيدين على حد سواء شعورهم اليقظ تجاه تحديات تطوف في فضاء واحد. مستفيد يحاول الوصول لخدمة يحتاجها، وموظف يقاوم إرهاقه النفسي بإهمال مقصود أو غير مقصود من مؤسسته. إسعافات نفسية أولية يقدمها أفراد هم بحاجة ماسة لعناية نفسية مصممة للتجاوب مع طبيعة عملهم.

الرهان على تفاني مقدمي الخدمات يجب أن لا يلغي/يقصي فرصهم من الوصول للرعاية النفسية اللائقة. مبدأ “DO NO HARM” هو ما علينا استنباته من الوسط الإنساني التّام فلا يحكمه “التارغت” ليقع العامل والمستفيد في فخ “المطحنة” ومآربها ضمن بيئة تسعى بأن تكون “مكان آمن” للناجين من العنف. 

المصادر



Source link

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى